مصر هبة النيل: خواطر وشجون
رشيد العناني
آخر تحديث:
الأربعاء 16 يونيو 2010 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
«هيرودوت»، أبوالتاريخ، المؤرخ الإغريقى الأشهر من القرن الخامس قبل الميلاد الذى زار مصر القديمة، وكتب عنها ضمن «تاريخه» المعروف، والذى ظل وصفه لمصر القديمة فى حضارتها وعباداتها وعادات أهلها المرجع الأكبر لذلك العصر حتى نشأة «علم المصريات» الحديث Egyptology فى القرن التاسع عشر ــ هيرودوت هذا لم يحالفه الصواب فى كل شىء، فمن الروايات الواردة فى تاريخه مثلا أن فيضان النيل إنما ينتج عن ذوبان الثلوج فى أقاصى الجنوب، مما يجعله يبدى تعجبه من وجود الثلوج فى أفريقيا التى يعتبرها أحرّ مناطق العالم، ثم يمضى محاولا تفسير تلك الظاهرة الخاطئة أصلا بالكلام على الرياح الصحراوية التى تحجب حرارة الشمس عن تلك المناطق فتتكون الثلوج التى ما تلبث أن تذوب فينتج عنها الفيضان.
إن كان هيرودوت أخطأ فى شرح فيضان النيل الذى عاينه فى مصر، فإنه من المؤكد قد أصاب فى عبارته الشهيرة «مصر هبة النيل»، تلك العبارة التى لقنّا إياها صغارا فى المدارس، ولعل أبناء الجيل الحالى مازالوا يطالعونها فى كتبهم المدرسية حتى اليوم. والمعنى الذى قصده هيرودوت قبل ألفى وخمسمائة سنة، وهو أن حضارة مصر المستقرة الزاهرة القائمة على الزراعة ما كانت لتكون لولا ماء النيل وطميه المتجدد مع كل عام جديد، ضامنا إلى الأبد خصوبة التربة وما تطرح من ثمار ــ ذلك المعنى الصادق فى زمانه، لا ينقص صدقه مقدار ذرة اليوم. وهو سبب الانزعاج الشديد الذى استبد بنا ــ نحن المصريين ــ جراء نقض دول المنبع لاتفاقيات المياه القائمة بينهم وبين مصر. انزعاجنا اليوم هو انزعاج تاريخى بقدر ما هو انزعاج وجودى. وكأن المصرى الخائف اليوم على ماء النيل لا يخاف على الحاضر والمستقبل وحده، وإنما يخاف بأثر رجعى على ماضينا الذى هو أيضا «هبة النيل».
لا أعتقد أنى فهمت معنى قول هيرودوت حق الفهم إلا بعد زمن طويل من تلقينى العبارة فى الصف المدرسى. إنما صدمنى معنى تلك العبارة بكامل قوته، حينما رأيت مصر لأول مرة من نافذة الطائرة فى الجو. شريط أسمر عملاق الطول، يحيط به من الجانبين شريطان أخضران، ومن ورائهما يترامى انفساح أصفر بلا حدود. أدركت وقتها لأول مرة أنه لولا الشريط الأسمر، لما وُجد الشريطان الأخضران وما عليهما من عمران وحياة، ولا ازدهى الخواء الأصفر اللامتناهى بانتصاره على إمكانية الحياة، ولما وُجد التاريخ والحضارة العريقة التى ننتسب إليها نحن المصريين.
كانت نزهتى الكبرى، صيفا وشتاء، أيام الطلبنة فى المدرسة السعيدية الثانوية ثم فى جامعة القاهرة أن أسير المساء بحذاء كورنيش النيل من عند كوبرى الجيزة (عباس سابقا) حتى كوبرى الجلاء، فأعبره مجتازا الجزيرة، فكوبرى قصر النيل، حتى أجد نفسى فى ميدان التحرير ووسط البلد. كنت أفضل صحبة النهر العظيم ساعة أو يزيد على اكتظاظ الباص، وإن أخذنى لمقصدى فى دقائق. غبت عن القاهرة سنوات طويلة فى إنجلترا، ثم عدت ذات مرة مشتاقا أن أتقصى خطوات رحلتى الأثيرة فى الزمن الغابر. ويا لهول ما اختبرت! لم يعد النيل موجودا. اختفى النهر العظيم بالنسبة للسائر على الكورنيش، وعلى ضفته قامت النوادى الخاصة للطبقة الخاصة، ورست العوامات الثابتة والمتحركة تقدم أطايب الطعام والشراب، وجولات الرقص والطرب، للقادرين على الدفع. أما من لم تحتكم جيوبهم إلا على قرطاس الترمس أو كوز الذرة المشوية، فالنيل لم يعد لهم. صفحته الرقراقة الجميلة، العاكسة لما حولها من حياة وأضواء، المرسلة نسيمها على خلق الله بلا تفرقة ولا انحياز، لم تعد لهم. النيل، مانح الحياة للجميع، صار طبقيا. أُممّ! أم لعل الكلمة الصحيحة «خُصخص»؟ يومها بكى قلبى على ذكريات الجمال التى سرقت منى ومن جيلى، وعلى نصيب الأجيال الحالية التى سُلب منها النيل، ووقعت ضحية لانعدام التخطيط العمرانى، ولتسيّد قيم القبح والأنانية العشوائية، التى لا ينجم عنها إلا غلظة الروح والسلوك. واليوم أرى انعدام التخطيط، والنظرة المستقبلية، يواجهنا بما هو أخطر من احتجاب الوجه الرقراق لصفحة النيل وراء قبح البناء الفج. أراه يواجهنا باحتمالات غياب ماء الحياة ذاته، حتى فيما وراء الأبنية الغليظة.
وأتذكر فيما أتذكر واحدا من كتبنا المدرسية فى ذلك الوقت، نحن الجيل الذى نشأ فى مدارس ثورة 1952 الوليدة. أتذكر كتيب جمال عبدالناصر «فلسفة الثورة» الذى لم أعد إليه منذ ذلك الوقت. وأتذكر دوائره الثلاث التى رأى أنها المجالات الحيوية الثلاثة لمصر. الدائرة العربية، والدائرة الإسلامية، والدائرة الأفريقية. أخطأ عبدالناصر كثيرا. ولكنه كان مصيبا فى تحديد هذه الدوائر، وإن غاب عنه أهمية الدائرة الأوروبية لحوض المتوسط، أو لعلنا نجد له العذر، فتلك وقتها كانت الدائرة الاستعمارية التى تحاول المنطقة التحرر منها. إلا أن المهم فى سياقنا الحالى هو «الدائرة الأفريقية»، وبالأخص الدائرة «النيلية».
كان عبدالناصر يرى فى أفريقيا مجالا طبيعيا للحركة المصرية، ولم يكن فى ذلك مجددا غير مسبوق، فهذا كان دائما أحد توجهات فراعين مصر القدامى، وهكذا كان توجه أسرة محمد على فى العصر الحديث أيضا، وخاصة فى زمن الخديو إسماعيل.
على أن ذلك كان فى عهود التوسع والفتح ومد السيطرة. أما فى النصف الثانى من القرن العشرين، عصر التحرر والاستقلال، فقد حلت المصالح السياسية والاقتصادية وتبادل المنافع والتحالفات محل الفتوح والتوسعات. لكنى أرانا فى العقود الأخيرة التهينا بأزماتنا، وحروبنا، وانتكاساتنا، وافتقارنا، ومحاولتنا البقاء أحياء بقدر الإمكان ــ أرانا التهينا بذلك كله حتى انكمشنا على أنفسنا، وتقلص تأثيرنا فى دوائر عبدالناصر الثلاث جميعا، حتى وجدنا أنفسنا منزوين قرب المحيط الخارجى لها، أو ربما خارج الدائرة تماما فى حالة أفريقيا، كما تؤكد الأزمة الحالية مع دول المنبع النيلى.
من كان يظن النيل مصريا وحسب، فإنه اليوم يعلم أن النيل أوغندى، وإثيوبى، وزائيرى، وكينى، وتانزانى، ورواندى، وبوروندى، وسودانى، ثم مصرى. إن مصر دولة المصب وحسب. المحطة الأخيرة للمسافر الجبار فى رحلته السنوية. مصر «هبة» النيل، وليست «مالكة» النيل. وللنيل ــ فيما نكتشف الساعةَ ــ بنات أخريات غير مصر، يتذكرن اليوم والدهن العظيم، ويطالبن بحقهن فى ثروته الهائلة من ماء الحياة. حان للأخت الكبرى أن تراضى الأخوات الصغيرات اللاتى نسيتهن فى انكبابها على همومها الخاصة.