الانتقال إلى الديمقراطية فى مصر وإندونيسيا
سيد قاسم المصري
آخر تحديث:
الخميس 16 يونيو 2011 - 8:42 ص
بتوقيت القاهرة
أوجه الشبه وأوجه الاختلاف:
هناك العديد من نقاط التشابه بين فترة حكم سوهارتو فى إندونيسيا ومبارك فى مصر، فكلاهما جنرال فى القوات المسلحة وكلاهما استمر يحكم لمدة ثلاثة عقود (سوهارتو من 1968 إلى 1998) ومبارك (من 1981 إلى 2011) وكلاهما أجبر على التنحى بثورة شعبية قام بها الشباب، كما اتسم عهد كل منهما باستشراء الفساد وإن كان أشد ضراوة فى إندونيسيا حتى شمل كل قطاعات الدولة بما فيها القضاء بل على رأسها القضاء، بالإضافة إلى الممارسات الفاسدة لأسرتى الرئيسين وإن كان فساد أبناء سوهارتو أيضا أشد، فقد أثروا ثراءً فاحشا وكانوا يتدخلون فى معظم الصفقات التجارية المهمة حتى قيل إنه لو وضعنا قائمة باثنى عشر شخصا من أكثر الناس ثراءً فى إندونيسيا لكان نصفهم من أسرة سوهارتو، وقد ظهر أبناء سوهارتو على غلاف مجلة تايم الأمريكية فى منتصف التسعينيات تحت عنوان إمبراطورية الأبناء والابنة.
يضاف إلى ذلك آمال وجود توريث الحكم لدى الرجلين، وإن كانت هذه الآمال قد تحولت فى مصر إلى خطة ذات مراحل وتم العمل بإنجاز عدة مراحل منها واقتربت كثيرا من مراحلها النهائية، فإن الأمر فى إندونيسيا لم يتعد شائعات حول رغبة سوهارتو فى توريث الحكم إلى ابنته.
ومن سمات التشابه أيضا بين الرجلين والنظامين أن كليهما قضى على مؤسسات الدولة بحيث أصبحت شكلا بلا مضمون بحيث قيل عن إندونيسيا تحت سوهارتو أن المؤسسة الوحيدة التى كانت تعمل فى إندونيسيا هى سوهارتو.
وفى غياب وجود مؤسسات تضمن انتقالا منظما للسلطة.. قدم كل من الرجلين نفسه داخليا وخارجيا على أنه ضمانة الاستقرار وأنه لا بديل له إلا باستمرار نظامه بشكل أو بآخر واستخدم كل منهما فزاعة «البديل المخيف».
وكان هذا البديل المخيف بالنسبة لسوهارتو فى البداية هو الشيوعيون ثم ــ بعد الانهيار العالمى للنظام الشيوعى الذى تزامن مع ظهور الأصولية الإسلامية والسلفية الجهادية ــ أصبحت هذه الأخيرة هى الفزاعة الأكثر إثارة للرعب.
وأخيرا.. فمن مظاهر التشابه أيضا أن كلتا الثورتين قام بها الشباب والطلبة وأن الأمر انتهى بتخلى القوات المسلحة عن الرئيس فى البلدين وهو ما أجبرهما على التنحى.
●●●
أما أوجه الاختلاف فكثيرة وعميقة وبوجه عام فإن ثورة إندونيسيا واجهت ظروفا أشد وأقسى من ظروف ثورة مصر، فالوضع الجغرافى أشد تعقيدا وصعوبة.. حيث تقع إندونيسيا فى أرخبيل يضم نحو 17 ألف جزيرة من بينها 6000 على الأقل مأهولة بالسكان ولا يمكن التواصل معها عن طريق البر.. لذلك فقد أقام سوهارتو حكما مركزيا صارما حتى يمكن إحكام القبضة على هذه الجزر.. وقلص اللامركزية خشية تفكك الدولة، يضاف إلى ذلك التنوع الإثنى، ففى إندونيسيا يوجد بها مجموعات اثنية بعدد أيام السنة كما تقول إحدى النشرات السياحية الرسمية، وهذه الاختلافات العرقية واللغوية والدينية تسمح بالتعبئة السياسية بسهولة وهو الأمر الذى أدى إلى اندلاع العديد من النزاعات العرقية الدموية فى عهد ما بعد سوهارتو.. وقد فاقم من هذه النزاعات سياسة سوهارتو الخاصة بنقل السكان من الجزر المزدحمة إلى الأقل ازدحاما.. كما ساعد على تفاقم مشكلة التنوع الاثنى.. تعدد اللغات واللهجات.. فحتى عام 1928 لم يكن لإندونيسيا لغة قومية واحدة.. وقد نشأت اللغة القومية بقرار من قادة التحرر الوطنى اتخذوه عام 1928.. وتلك كانت ــ وأقول ما زالت ــ صعوبات جمة تواجه الوضع الإندونيسى وغير قائمة فى الوضع المصرى..
وينحو أكثر الباحثين الغربيين إلى اتهام الإسلام بأنه العنصر الأساسى المعوق لانتشار الديمقراطية وأن المجتمعات الإسلامية ــ بطبيعتها ــ تقاوم الديمقراطية..
ولكن إندونيسيا ذات الأغلبية المسلمة التى تصل إلى 87% من مجموع السكان أكدت عكس ذلك، وبالرغم من أن الغالبية العظمى لمسلمى إندونيسيا هم من السُنة إلا أنهم ينقسمون إلى فئتين كبيرتين: مسلمون اسميا ويطلق عليهم تعبير الـ Abangan وهؤلاء هم الذين أيدوا انقلاب الحزب الشيوعى فى الستينيات، ومسلمون يمارسون شعائر دينهم ويطلق عليهم اسم الـ Santri.
وبالرغم من تسرب التطرف وبعض عناصر القاعدة إلى إندونيسيا فى عهد ما بعد سوهارتو والحوادث الإرهابية التى وقعت فى جزيرة بالى وفى جاكرتا وغيرهما.. فإنه عندما وصل الأمر إلى صناديق الانتخاب.. صوتت الغالبية العظمى لصالح الأحزاب الديمقراطية والعلمانية.. وذلك بالرغم من أنه مع بدء العهد الديمقراطى فى إندونيسيا بدأ فى نفس الوقت تزايد الاهتمام بالدين الإسلامى ويبدو ذلك واضحا من ازدياد عدد المحجبات وازدياد عدد الحجاج وازدياد المساجد، ويقول تقرير لمجموعة «غدا بلا إرهاب Terror Free Tomorrow» أنه بالرغم من أن بعض الحوادث الإرهابية تجد لها تبريرا وهذا فى حد ذاته لا يعد مؤشرا يبشر بالخير لمستقبل الديمقراطية فى إندونيسيا، إلا أن المدقق فى الأمر يجد أن هذه المشاعر تتعلق برفض السياسات الغربية الخاصة بالنزاع الإسرائيلى ــ الفلسطينى واحتلال أفغانستان وما شابه ذلك من القضايا التى تهم العالم الإسلامى ولا تعبر عن تأييد للعمل الإرهابى نفسه، ويشير نفس التقرير إلى أنه «من المثير للدهشة أن المتدينين الممارسين للشعائر أقل تأييدا للعنف من غيرهم».
وهكذا يمكن القول إن «الإسلام المنظم» ــ إن جاز هذا التعبير ــ وأقصد به المنخرط فى تنظيمات سياسية واجتماعية قد ساعد فى إرساء دعائم الديمقراطية فى إندونيسيا.. ويبقى أن نرى ما سيقدمه الإخوان المسلمون فى مصر وسائر مكونات التيار الإسلامى فى جهود إرساء دعائم العهد الديمقراطى فى مصر.. وإن كنت أرى أنه فى هذه الناحية بالذات فإن الأمر فى إندونيسيا قد يكون أسهل بكثير منه فى مصر.
دور العسكريين:
لا شك أن إخضاع العسكريين للقيادة المدنية المنتخبة ديمقراطيا هو من أهم سمات التحول الديمقراطى الحقيقى.. فهل تغلبت الثورة الإندونيسية على هذه العقبة؟
لقد بنى العسكريون دورهم ــ فى البداية ــ استنادا إلى حرب التحرير التى قادها الرئيس الأول سوكارنو ضد الهولنديين.. ثم توسع دورهم فى منتصف الخمسينيات عندما تحول سوكارنو عن الديمقراطية وأنشأ ما يسمى بالديمقراطية الموجهة.. إلى أن جاءت محاولة الانقلاب الشيوعى عام 1967 التى تصدى لها سوهارتو ونحى سوكارنو جانبا وقنن دور القوات المسلحة فيما عرف بالدور المزدوج Dual Function وأصبح لها حصة فى البرلمان وأصبحت هى المكلفة بضمان الأمن الداخلى والخارجى وأخضع لها الشرطة وجميع أجهزة المباحث والمخابرات، وأنشأت القوات المسلحة أجهزة موازية للأجهزة المدنية امتدت حتى مستوى القرية.
وفى الواقع خضع لها كل شىء واستشرى الفساد المالى فى ممارسات هذه القوات كما أن ممارساتها المتنافية مع حقوق الإنسان جعلت النفور الشعبى من القوات المسلحة عميقًا، وهو أمر يختلف عن الوضع بالنسبة للقوات المسلحة فى مصر إن لم يكن عكسه تماما..
لذلك فعندما انهار النظام فى جاكرتا.. وحاول النظام الجديد إعادة القوات المسلحة إلى ثكناتها وإلى دورها الطبيعى، لم يحقق إلا نجاحا منقوصا.. فقد نجح فى إلغاء «الدور المزدوج» المنصوص عليه فى الدستور للقوات المسلحة، كما لم تعد الشرطة خاضعة للجيش، إلا أنه لم يستطع تفكيك «الكيان الإقليمى» للقوات المسلحة أو الحد من الأنشطة الاقتصادية التى توافر لها ضعف ما تتلقاه من الميزانية الحكومية، كما استمرت تبعية أجهزة المخابرات للقوات المسلحة..
والخلاصة أن العسكر مازالوا لاعبين سياسيين أساسيين فى عهد ما بعد سوهارتو، ولكن.. وحتى الآن لم ينشأ موقف تصادمى بين العسكر والنظام..
ويرى بعض المحللين أن نشوء مثل هذا الموقف سيكون هو المحك والاختيار لمدى صلابة التحول الديمقراطى فى إندونيسيا ومدى قدرة الحكومة المنتخبة والرئيس المنتخب ديمقراطيا على فرض وجه نظرهم على العسكريين.
هل النموذج الإندونيسى هو النموذج المثالى لمصر؟
يتساءل الكثيرون إلى أين ستتجه مصر، خاصة بعد دخول التيار الإسلامى إلى ساحة العمل السياسى العلنى.. هل ستصبح إيران أم تركيا، وفى رأيى أن النموذج الإيرانى مستحيل التطبيق فى مصر بينما النموذج التركى حلم بعيد المنال، ويرى الكثيرون ومن بينهم مادلين أولبرايت أن إندونيسيا هى النموذج الأمثل لمصر، وفى مقال نشرته الجاكارتا جلوب بتاريخ 20 مايو 2011 جاء فيه أنه ما بين نموذج إيران ونموذج تركيا يبرز النموذج الإندونيسى المتوسط بين هذين هو الأقرب إلى الحالة المصرية وأنه يبدو واضحا أن مصر ــ شأن إندونيسيا ــ تعتمد الحوار الوطنى والمشاورات كوسيلة للتوصل للوفاق الوطنى حول أسلوب بناء الدولة الديمقراطية، وقد أدت المشاورات والحوار الوطنى الإندونيسى إلى ائتلاف القوى الرئيسية الثلاث التى تعمل فى الساحة الإندونيسية وهى:
الإسلام، والعلمانية، والعسكريين.
وإذا سارت مصر على نفس النهج فيمكنها التوصل إلى ائتلاف بين القوى العاملة على الساحة المصرية بما فيها الإخوان المسلمون والعلمانيون والعسكريون يقوم على أساس الحل الوسط، وإن كان البعض يحذر من محاكاة النموذج الإندونيسى والتعجل فى إعادة هيكلة المجتمع لأن ذلك أوقع إندونيسيا فى فوضى وتدهور مالى واقتصادى لم تتعاف منه إلا بعد مرور عقد من الزمان.
والخلاصة أن مصر يمكنها أن تتعلم من التجربة الإندونيسية وتتجنب المخاطر التى مرت بها إندونيسيا ولكن ذلك يجب أن يكون من خلال حلول مصرية تنبت من خلال حوار وطنى مصرى، ومن المهم أن تتم عملية الإصلاح نفسها بطريقة ديمقراطية وشفافة وألا تتم من خلال بيانات تصدر من أعلى.