سؤال واحد.. وإجابات متعددة
جلال أمين
آخر تحديث:
الثلاثاء 16 يونيو 2015 - 9:10 ص
بتوقيت القاهرة
فارق شاسع بين الطريقة التى يكتب بها كتابنا ومثقفونا اليوم، ويعلقون بها على الأحداث، أو يتكلمون بها عن المستقبل، وبين طريقة الكتابة والتعليقات التى كانت سائدة فى مصر فى النصف الأول من القرن الماضى، أى منذ ما يقرب من مائة عام.
اقرأ ما كان يكتبه طه حسين أو العقاد أو أحمد أمين فى العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، أو مقالات أحمد حسن الزيات فى مجلة الرسالة، فى الثلاثينيات والأربعينيات، أو اقرأ الأعمدة التى كان يكتبها توفيق الحكيم فى أخبار اليوم فى أواخر الأربعينيات، تعليقا على ما يجرى من أحداث، أو تأملاته فى كتب مثل «تحت شمس الفكر» أو «من البرج العاجى».. إلخ، تجد فى هذا كله نغمة لا نسمعها الآن قط، وتعبيرا عن ثقة بالنفس وبالوطن وبالمستقبل، لا نصادف مثيلا لها فيما يكتب الآن.
الظاهرة مدهشة من أكثر من ناحية. فهؤلاء الكتاب كانوا يكتبون فى ظل الاحتلال الإنجليزى ونظام اجتماعى بالغ الظلم، وسيطرة الاقطاعيين على الحياة السياسية، ولم يكن هناك من الدلائل ما يشير إلى قرب انتهاء هذا أو ذاك. كانت كل الدلائل تشير إلى أن الاحتلال باق على الأرجح لعدة عقود أخرى، وأن النظام الاجتماعى والسياسى باق أيضا طالما بقى الاحتلال، وربما استمر بعده. لم تكن فكرة قيام الجيش بانقلاب أو ثورة فى ١٩٥٢، لتخطر لأحد على بال، وقد فوجئ هؤلاء الكتاب والمثقفون بها كما فوجئ سائر المصريين. فمن أين جاءت لهؤلاء الكتاب والمثقفين هذه الثقة بأن مصر مقبلة على مستقبل زاهر، وأن المصريين قادرون على تحقيقه؟ وإلا فمن أين جاءوا بهذه المثابرة على المناداة بالإصلاح، وبهذا الأمل بأنه من الممكن أن يوجد من المسئولين من يستمع إليهم ويأخذ بنصائحهم؟
قارن هذا بما نراه الآن فى تعليقات مثقفينا وما يكتبه معظم كتابنا، قدر مدهش من الشعور باليأس الذى يقترب أحيانا من الاكتئاب، وكثير من السخرية التى نقرأها أو نسمعها من النوع الذى يدعو لبكاء بدلا من الضحك. وكثيرا ما دعا هذا الشعور باليأس إلى امتناع بعض الكتاب عن الكتابة أصلا، أو عن الاشتراك فى حوارات التليفزيون.
كيف حدث هذا وقد انتهى الاحتلال الأجنبى منذ أكثر من نصف قرن، وقضى على الاقطاع، وقامت بدلا من الثورة الواحدة ثورتان أو ثلاث، وانتشر التعليم حتى وصل إلى أصغر القرى، وأقيمت المنازل بالطوب الأحمر بدلا من الطوب النيئ، وكاد ينتهى نظام الخدمة المنزلية الأقرب إلى السخرة، وزاد اتصال مصر بالعالم، فسافرت أعداد كبيرة من الشباب المصرى إلى الخارج، ومن لم يسافر إلى الخارج رآه من خلال شاشة التليفزيون؟ والاقتصاديون يستطعيون أن يقدموا أرقاما تعبر عن تقدم حقيقى وليس مصطنعا فى مستوى المعيشة، وعن انتشار الأجهزة الكهربائية التى تخفف من الجهد العضلى المبذول لتلبية مختلف الحاجات الإنسانية. ما هو السر إذن وراء كل هذا الابتئاس وهذا القدر من الشك فيما يمكن ان يحمله لنا المستقبل؟
* * *
قد يقول البعض إن السبب هو هذا التقدم نفسه. فبعض التقدم يغرى بالمزيد منه، والاتصال بالعالم يزيد من الشعور بالحرمان بسبب المقارنة المستمرة بين حالنا وأحوال غيرنا. وقد قيل مرة إن الثورة لا تحدث بسبب تدهور الأحوال بل تحدث عندما يحدث بعض التحسن فيها. كل هذا صحيح، ولكنه لا يكفى فى رأيى لتفسير هذه الدرجة من التشاؤم الشائعة بين مثقفينا اليوم. إن شعور هؤلاء اليوم يتجاوز مجرد السخط أو الغضب، ووصل إلى درجة الشعور بالانهزام وقلة الحيلة وفقدان الثقة بالنفس. وكل هذا لا يكفى لتفسيره مجرد التطلع إلى المزيد، أو الطمع فى الأكثر والأفضل.
قد يكون أقرب إلى الصحة فى تفسير هذا الفارق العظيم بين أحوال مثقفينا الآن وأحوالهم فى النصف الأول من القرن الماضى، ما طرأ من تغير منذ ذلك الوقت فى أحوال الطبقة الوسطى المصرية التى ينتمى إليها دائما هؤلاء المثقفون، سواء فى الحاضر أو الماضى. كم كانت هذه الطبقة أيام طه حسين والعقاد فرحة بنفسها، فخورة بما حققته من تقدم، إذ هجرت مستوى الطبقة الدنيا بما حققته من تعليم، وواثقة من استحقاقها لهذا التقدم لأنها لم تحققه إلا بالتعليم، ومطمئنة إلى أن المستوى الاقتصادى والاجتماعى الذى حققته سوف يستمر أيضا فى المستقبل لها ولأولادها.
قارن هذا بحالة الطبقة الوسطى فى مصر الآن. قد تكون أعداد كبيرة منها فرحة أيضا بما حققته من تقدم وبانفصالها عن الطبقات الدنيا، ولكن ما هى درجة شعورها باستحقاقها لهذا التقدم، وهى تعرف أن هذا الصعود الاجتماعى كثيرا ما يرجع إلى أشياء لا علاقة بالتعليم ولا تستدر بنفس الدرجة من الاعجاب؟ بل وما درجة اطمئنان هذه الطبقة إلى ان يستمر أولادها وأحفادها فى الاحتفاظ بما حققته من تقدم مادى فى ظل تقلبات عنيفة فى الأحوال الاقتصادية، وفى ظل تضخم جامح قد يودى فى سنوات قليلة بما تحقق فى سنوات سابقة؟
* * *
ولكن أعود فألاحظ أن مصر ليست وحدها فى هذا التغيير الذى طرأ على مثقفيها خلال القرن الماضى. لقد لاحظت مثلا من متابعة لتطور كتابات وتعليقات المثقفين الإنجليز، فى الصحف وغيرها من وسائل الإعلام، بعض التغيرات التى تعكس تغيرات نفسية، ليست بالضبط كالذى نلاحظه فى مصر، ولكنها تشبهه فيما طرأ عليها من ضعف فى الثقة بالنفس، وقلة الاطمئنان إلى ما يمكن أن يأتى به المستقبل. هل أصبح المثقفون فى مختلف بلاد العالم أقل تفاؤلا مما كانوا قبل الحرب العالمية الثانية، وأقل اطمئنانا إلى استمرار ما حققوه من صعود اجتماعى، وإلى انتقاله منهم إلى أولادهم؟
إن التعميم فى مثل هذه الأمور محفوف بالمخاطر بالطبع، ولكنى لا استطيع أن أنكر ما أراه من علامات تشير إلى تغيرات من هذا النوع فى عالم شهد فى السبعين أو الثمانين عاما الماضية، تغيرات اقتصادية وتكنولوجية بعيدة الغور، وحل خلالها التضخم الجامح محل استقرار نسبى فى الأسعار والدخول، وخضع فيها الجميع لاغراءات المجتمع الاستهلاكى، واشتدت خلالها المنافسة، وأصبح التقدم الاقتصادى (أكثر فأكثر) هو القيمة العليا فى المجتمع على حساب قيم أخرى كالعدالة، أو كالاستقرار العائلى، بل وحتى على حساب قيم كنا نظنها أكثر صلابة كالصدق والنزاهة.
إنى أعود بذاكرتى للزمن الذى كان يكتب فيه طه حسين والعقاد والزيات والحكيم، فلا أذكر أن الشئون الاقتصادية كانت تحتل مكانة عالية فى كتاباتهم، هل أبالغ إذا قلت إنهم كانوا ينتمون إلى أجيال تعلى من شأن الأخلاق والثقافة، وتضعها فوق التقدم الاقتصادى؟ كانوا يفترضون أن الناس مستعدون بصفة عامة للتضحية بالمنافع الاقتصادية فى سبيل قيم أخلاقية وثقافية، أكثر مما نفترض نحن الآن. إن انحسار هذا المناخ الذى كان يعيش فيه المثقفون لم يحدث فى مصر وحدها، ومن ثم يبدو لى أن استعادته أمر أصعب بكثير مما تظن.