مصر بين أنواء
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 16 يوليه 2016 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
الأنواء تهبّ ومصر قارب فى وسطها. دوّامات نشأت عن الأزمات التى تعصف بمنطقتنا، ورياح أخرى صدرت عن تصرف لنا أو غيبة لأى تصرف.
المنطقة تعجّ بالأزمات من ليبيا إلى اليمن إلى العراق ولكن الدوّامة الأساسية نشأت عن تغيرات فى اتجاهات الفاعلين الأساسيين فى سوريا، وهى دوّامة تشمل فى نطاقها العراق ذاته، وتؤثر لا محالة فى لبنان، ثم تمتدّ تبعاتها إلى المنطقة كلها، بما فى ذلك الفاعلون فى الجزيرة العربية وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية.
أسباب رئيسة للدوّامة تكمن فى المساندة الفعّالة التى قدمتها روسيا، من جانب، وإيران وحزب الله، من جانب آخر، للنظام الحاكم فى سوريا والتى مكّنته من استعادة أرض كان قد خسرها فى السنوات الأخيرة وتحسين موقفه السياسى فى أى مفاوضات محتملة مقبلة. ولكن للدوّامة أسبابا أخرى أهمها التغير شبه الجذرى الذى طرأ على مواقف تركيا. بعد تصالحها مع إسرائيل، هى اعتذرت لروسيا عن إسقاطها طائرة مقاتلة روسية فى شهر نوفمبر الماضى واستأنفت علاقاتها معها، ثم هى من معاداة مطلقة للنظام السورى انقلبت لتدرس إقامة علاقات دبلوماسية معه.
الانقلاب التركى يفسّر بالعمليات الإرهابية المتكررة فى إسطنبول وفى غيرها من المدن، وبإعطاء الأولوية لمكافحة أى اتجاهات انفصالية كردية، وهو ما يعنى أيضا تقديم اعتبارات الوطنية التركية على أطروحات الإسلام السياسى، العنيف منه وغير العنيف. هذه الأولوية الجديدة تضع تركيا على نفس الخط مع سوريا، والعراق، وإيران، وروسيا التى تواجه كل منها مسألتها الكردية. هل يرتسم على هذا الأساس تفاهم يجمع هذه البلدان الخمسة فى المنطقة؟ وماذا عساه يكون موقف مصر منه؟
***
مصر على علاقة جيدة مع روسيا وهى تعتمد عليها فى بناء قدراتها النووية السلمية كما أنها على صلة تبدو طيبة بالحكم فى العراق، غير عابئة، لحسن الحظ، بأى اعتبارات مذهبية وسياسية متداخلة. ومصر الرسمية على علاقة أيضا بالنظام الحاكم فى سوريا الذى تعتبره الضامن لسلامة أراضى سوريا والقادر، بمساعدة حلفائه، على دحر تنظيمات العنف المسلّح فيها. التحليل يصل إلى أن مصر قريبة من التكوين الذى تشكله روسيا وإيران والعراق والنظام السورى، وهو التكوين الذى يبدو أن تركيا تفكِّر فى الانضمام إليه.
التساؤل عن موقف مصر يزداد دلالة على ضوء تصريحات رئيس الوزراء التركى التى عبّر فيها عن سعى بلاده لتطوير علاقاتها مع مصر، فضلا عن العراق وسوريا. تحفظان اثنان ضروريان على أى موقف إيجابى من هذا التكوين الخماسى المحتمل، الأول أنه لا ينبغى أن يكون على حساب الدعوة الديمقراطية فى سوريا، وهى دعوة تستمدّ شرعيتها من مجرد أنها نقيض للقمع والبطش اللذين مارسهما النظام فى حق الشعب السورى لعشرات السنين، أما التحفظ الثانى فهو يتعلق بضرورة الاستفادة من أى موقف إيجابى من التكوين الخماسى المحتمل للتصدّى فى وقت لاحق لأوجه الخلل البنيوى والمدمّرِ فى النظام السياسى العراقى. أى موقف إيجابى لا ينبغى أن يكون قبولا فقط، وإنما لا بدّ أن يكون موقفا فاعلا. بالمواقف الفاعلة وحدها، والتى تحددها هى بشكل مستقل على ضوء مصالحها، ستستعيد مصر موقعها الذى تلاشى فى المنطقة.
الانقلاب فى تحالفات تركيا فى المنطقة سيقابل بالاستياء فى المملكة العربية السعودية، والاستياء سيزداد إن اتخذت مصر موقفا إيجابيا من التكوين الخماسى. يمكن لمصر أن توضح أن موقفها لا يعنى اصطفافا مع مجموع الدول الخمس أو مع أى منها على حدة. مصر تبتغى من مواقفها صالح المنطقة وتهدئة النزاعات فيها، قبل حلِّها. الاستياء بين الدول لا يدوم طويلا. لا بدّ أن نكون على استعداد لتحمل تبعات الاستقلال فى تحديد مواقفنا والاستياء المؤقت للآخرين. للاستقلال فى تحديد المواقف مردود عظيم، سياسيا واقتصاديا، يتعدّى بمراحل ما يمكن أن يضيع خلال فترة الاستياء المؤقت.
***
رياح فى المنطقة هبّت وفى داخل مصر من جراء زيارة وزير الخارجية المصرى واجتماعاته الودّية برئيس الوزراء الإسرائيلى، وهو من هو، فى مدينة القدس نفسها، وليس فى العاصمة التى يعترف بها العالم وهى تل أبيب. ليس معروفا ما دار فى هذه الاجتماعات وعلاما انصبّت تحديدا، كما أنه ليس معلوما ما كان قد جرى فى لقاءات الوزير برئيس السلطة الفلسطينية قبلها بأسبوعين فى رام الله، بخلاف العموميات عن دعم مصر للقضية الفلسطينية.
المفهوم أن اجتماعات القدس ــ وقبلها، لقاءات رام الله ــ كانت بشأن تشجيع الطرفين على التفاوض بهدف الوصول إلى تسوية وإرساء السلام فى المنطقة. هذه كلها آمال مستحبّة، ولكنها على أى شىء تستند؟ الأغلبية الساحقة من المصريين تتمنّى تسوية القضية الفلسطينية وتتطلع إلى السلام. هذه الأغلبية ــ لأسباب ومبررات مختلفة ــ صارت تقبل بوجود إسرائيل، ولكنها تريد تسوية عادلة للقضية الفلسطينية تكفل للشعب الفلسطينى أسباب الاستقرار والتنمية والتقدم. والتسوية العادلة ضرورية لسببين: أولا، نقيضها، أى التسوية غير العادلة، لن تصمد وستنهار، أيا كانت القوة التى تمارس لفرضها. أما السبب الثانى، فهو أن أى تسوية غير عادلة ستقوِّض من قوة مصر لمصلحة إسرائيل. التسوية العادلة وحدها هى التى تحفظ لمصر قوتها النسبية فى المنطقة وتصون موقعها فيها.
بعد سنوات من الفشل فى عملية السلام، ما الذى حدث بالضبط لعلاقات القوى بالمنطقة لكى تقرر مصر أخذ زمام المبادرة ومحاولة إطلاق عملية سلام جديدة تكون هى المحرِّك لها؟ «وما نيل المطالب بالتمنّى»! سوريا مدمرّة، والعراق ممزّق، والأردن طالته التفجيرات وهو ممتلئ باللاجئين، ولبنان بدون رئيس للجمهورية ومنقسم وملىء باللاجئين هو الآخر، وليبيا تحاول مجرّد الوجود، ومصر فى وضع اقتصادى تعيس وحالة سياسية بائسة، واليمن مهدّم، والسعودية منشغلة باليمن والبحرين وسوريا، وداعش وأخواتها تنخر فى عظام المنطقة كلها. هل هذه أوضاع يمكن التفاوض فى ظلها وانتظار حدّ أدنى من النجاح فى تحقيق هدفك من التفاوض؟ ما الذى يجعل رئيس الوزراء الإسرائيلى فى ظل الأوضاع المذكورة يتخذ مواقف تدعم السلام حقا وهو لم يتخذها عندما كانت الأوضاع العربية أقل سوءا؟ وما الذى يدعو الشعب الفلسطينى إلى أن يقبل ما رفضه من قبل؟ رئيس الوزراء الإسرائيلى وغلاة المتطرفين فى إسرائيل هم وحدهم المستفيدون من المبادرة المصرية الأخيرة، حتى فى مواجهة أنصار السلام الإسرائيليين أنفسهم. لا يهم المتطرفين بعد ذلك أن تثمر المبادرة أو لا تثمر. أما أصحاب المبادرة، المصريين، فإن عدم إثمارها خسارة مؤكدة لهم.
***
شهر يوليو كان سخيّا مع رئيس الوزراء الإسرائيلى. فى بداية الشهر، حقق اختراقا هائلا عندما زار أربع دول فى شرق إفريقيا منها الدولتان اللتان توجد بهما منابع النيل الأبيض والنيل الأزرق، أوغندا وإثيوبيا، كما اجتمع فى الأولى بزعماء سبع من دول حوض النيل، لم يغب عن الاجتماع إلا رئيسا السودان ومصر ليكتمل عقد دول حوض النيل، نهرنا الخالد. هذا الاجتماع من الأنواء التى تتجمع حول مصر. حتى بافتراض أن الودّ الصافى يجمع بين مصر وإسرائيل، فهل من مصلحة مصر أن يتداخل لاعب جديد غريب فى العلاقات الخلافية أصلا بين دول حوض النيل؟ نعم، نحن فى علاقات سلمية مع اسرائيل الآن، وهى علاقات سلمية، كما سبق ذكره، تحرص على دوامها أغلبية المصريين. ولكن حتى أقرب الدول إلى بعضها البعض تراقب كل منها سلوك الأخرى والتطورات فيها.
فى سنة 1990، بعد 45 سنة من نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد أن ضمّت الجماعة الأوروبية ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وجمعها الحلف الأطلسى، وبعد أن أصبح التفاهم بين ألمانيا وفرنسا المحرك للتكامل الأوروبى وللجماعة الأوروبية لفترة ثلاثين عاما، من جانب، وحجر الزاوية للسلام فى القارة العجوز، من جانب آخر، بعد كل ذلك تحفظت بريطانيا وفرنسا على إعادة توحيد ألمانيا. لم تقبل فرنسا فى النهاية بإعادة توحيد صديقتها الحميمة الجديدة، وعدوها القديم، إلا بعد الاتفاق على تعميق التكامل الأوروبى، بمعنى توسيع نطاق السياسات المشتركة التى تحدّ من مساحات الحركة المستقلة لكل الدول الأعضاء بما فيها ألمانيا. لا يجب أن يقضى التاريخ على المستقبل، ولكن دروس التاريخ لا بدّ أن تنير هذا المستقبل.
أنواء أخرى توجد على المستوى الدولى. هذه لها حديث آخر.