قبل أن يدلف «يوليو» إلى روزنامة الزمن تبدى الطقس حارقًا بأكثر مما هو طبيعى ومعتاد، كأنه انعكاس لما يجرى فوق مسارح السياسة بأكثر أقاليم العالم اشتعالًا بالنيران، فكل شىء يكاد يخنق التنفس العام انتظارًا لما سوف يحدث فى النصف الثانى من هذا العام، حيث تحسم الخطوط الرئيسية للمصائر والخرائط وموازين القوى الجديدة وحركة المصالح الدولية.
بدايات يوليو شهدت الحسم العسكرى للحرب على «داعش» فى الموصل، ثانى أكبر وأهم مدينة عراقية، وبدأ العد التنازلى لإنهاء أية تمركزات أخرى على الأرض للتنظيم المتطرف، لكنه يصعب التكهن بالصورة التى يستقر عليها العراق.
إلى أى حد يمكن الحفاظ على وحدته؟
هذا السؤال إجابته معلقة فى رقبة نصف العام المنذر.
الأكراد يستعدون مطلع الخريف لتنظيم استفتاء يدعو للانفصال، والولايات المتحدة تعطى إشارات متضاربة لكنها لا تخفى تأهبها لبقاء قواتها بالعراق بعد انتهاء الحرب على «داعش»، والمشاحنات المذهبية تصعب من احتمالات التوافق الوطنى.
المصير العراقى مرتبط بصورة كاملة بالمصير السورى.
إذا ما قسم العراق فسوريا تلقى المصير نفسه.
وإذا ما نشأت دولة كردية فى العراق وحكم ذاتى كردى فى سوريا فإن الإقليم داخل لا محالة إلى حروب مفتوحة، حيث تشرع تركيا خطا أحمر على مثل هذا السيناريو.
التقسيم ليس محتمًا لكنه وارد بقوة وأخطاره كألعاب الدومينو ممتدة بيقين إلى دول عربية أخرى.
كما أن التقسيم يسهل تصفية القضية الفلسطينية فيما يعرف بـ«صفقة القرن».
ما مستقبل «داعش» فى ظل هذه التطورات المحتملة؟
هذا سؤال آخر ملغم بالرهانات المتناقضة والصراعات المتناحرة، والسيناريوهات المتوقعة تنذر بمخاوف لا سبيل إلى إنكارها، أو التجهيل بأسبابها.
هناك مساران متلازمان فى أية إجابة ممكنة، كلاهما يؤثر بالعمق فى الآخر والفصل بينهما مستحيل.
الأول، ما سوف ينتهجه التنظيم من صور عنيفة بعد استكمال دحره فى العراق وسوريا وإنهاء دولته بقوة السلاح، حدود قوته وقدرته على الضم والتجنيد والترويع واستعادة ما فقده من تمركزات على الأرض بصور جديدة ومناطق أخرى من ثغرات السياسة والمجتمع.
والثانى، ما سوف يستقر عليه الإقليم من أوزان وحسابات قوة بعد انتهاء الحرب على «داعش» فى المشرق العربى ـ فأية مشروعات تقسيم محتملة تعنى بالضبط إخلالًا فادحًا بالحقائق الجغرافية والسياسية والإنسانية يفسح المجال واسعًا لزلازل عنف وإرهاب واضطرابات تعيد «داعش»، وأية تنظيمات متطرفة أخرى إلى صدارة المشهد بصور جديدة.
فى الإجابات الشائعة عما بعد «داعش» كلام كثير عن إرهاب متوقع بالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة يصل إلى حيث يستطيع أن يضرب وصراعات داخلية محتدمة، وأخرى منتظرة مع «القاعدة» و«النصرة»، أيهم أكثر تعبيرًا عن الفكر المتشدد وأشد عنفًا.
وفى الإجابات الشائعة ببلد مثل مصر كلام كثير آخر عن استراتيجية متكاملة لمكافحة الإرهاب تمتد إلى إصلاح الخطاب الدينى وتجفيف البيئات الحاضنة بإصلاحات اجتماعية وسياسية دون أن تضفى السياسات المتبعة أية مصداقية على مثل هذا الكلام، فلا عدالة بادية فى توزيع أعباء الإصلاح الاقتصادى ولا تخفيف جدى لأنين الطبقة الوسطى والفئات الأكثر عوزًا، ولا مشروع ثقافى يطرح نفسه لمواجهة الفكر المتطرف، ولا الأداء الإعلامى يشجع على الحوار، وفكرة السياسة نفسها تكاد تغيب بالكامل.
هذه كلها أجراس خطر تستبق نصف عام منذر.
إذا لم تتأكد سلامة الأوضاع الداخلية فإن كل شىء تحت حد التهديد دون قدرة كبيرة على صد مخاطره.
أرجو الالتفات إلى أن الجريمة الجنائية تلاحق الجريمة الإرهابية، والاثنتان مرشحتان للتمدد بالنصف الثانى من هذا العام.
بقدر ارتفاع منسوب الأزمة الاجتماعية تتوافر أسباب الجريمتين، فالبيئة الحاضنة واحدة، غير أن كل واحدة تعبر عن نفسها بطريقة مختلفة.
لم تكن مصادفة تواكب المواجهات العسكرية والأمنية مع جماعات عنف وإرهاب فى سيناء والداخل المصرى مع حادث سطو مسلح على إحدى شركات الصرافة فى القاهرة، أعقبه سرقة سيارة جمع قمامة تابعة لمحافظة الاسماعيلية تحت تهديد الأسلحة الآلية.
التواكب تتزايد شواهده، وهذا عبء على الأمن يصعب تحمل مسئوليته بلا دعم شعبى حقيقى وتماسك وطنى على أسس واضحة تنتسب لمفاهيم الدولة الحديثة، التى تحفظ كرامة مواطنيها وتحوز ثقتهم، تحترم القانون وتكفل الحق الدستورى فى حريات التعبير.
الثغرات الاجتماعية والسياسية والثقافية ممرات مفتوحة للإرهاب كى يتمركز ويضرب فى الوجع مستهدفًا ضباطا وجنود جيش وشرطة وأقباطًا على نحو منهجى مقصود لإفقاد الدولة ثقتها فى نفسها.
بذات الوقت فإن نفس الثغرات ممرات مفتوحة أخرى للجرائم الجنائية، التى بدأت تأخذ شكل «العصابات المنظمة».
أمام العواصف الجديدة، التى تتجمع نذرها فى الإقليم، فإن تحسين البيئة العامة ورفع المظالم السياسية والاجتماعية من ضرورات مواجهة الإرهاب وتثبيت الدولة.
تثبيت الدولة عنوان جاد فى أوضاع خطرة، لكن أى دولة؟ الدولة الدستورية أم دولة الأمن؟
هذا هو السؤال الأكثر جدية فى النصف الثانى من العام المنذر.
ما يحفظ سلامة سيناء والبلد كله، ويصون الأمن بمعناه الحقيقى مدعومًا من مجتمعه، أن تمضى السياسات المتبعة وفق القواعد الدستورية الحديثة.
أن يلعب الأمن دوره فى المواجهة دون إخلال بكرامة المواطنين وحرياتهم.
حتى الإجراءات الاستثنائية ينظمها الدستور.
إذا لم يحدث تصحيح فى معادلة الأمن والحرية فإن الإرهاب هو المستفيد الأول.
وإذا لم يحدث تصحيح آخر لقواعد العدل الاجتماعى فالنتائج معروفة.
بعض الاستنتاجات الخاطئة عواقبها غير محمودة، كالقول إن المصريين تقبلوا بنوع من الصبر الإجراءات الاقتصادية التى أقدمت عليها الحكومة وأفضت إلى ارتفاعات متواصلة لأسعار السلع الرئيسية والطاقة والكهرباء والمياه.
مثل هذا الكلام ينكر الأزمة ولا ينظر فى التداعيات المحتملة.
المجتمع متعب بأثر ما شهده من تحولات عاصفة لأكثر من ست سنوات.
هذا سبب أول لصمت ردات الفعل رغم الأنين المرتفع.
والمجتمع يخشى المجهول، فهو لا يرى أمامه بديلًا مقنعًا بذات قدر خشيته على مستقبل شبابه، وبعضهم يتعرض للعسف دون ذنب وأحيانًا دون تهمة.
هذا سبب ثانٍ.
الاستنتاج الخاطئ لا يساعد على تحصين البلد أمام ما يحدث فى الإقليم ولا فى المواجهة مع الإرهاب.
التحصين مسألة توافقات وطنية، وأية توافقات شبه مستحيلة دون فتح المجال العام لكل رأى يلتزم بالقانون والدستور ولا يحرض على عنف وإرهاب.
خلال هذا الصيف من المنتظر أن يبدأ «العمل على إعداد خريطة طريق لما بعد الحرب فى العراق وسوريا»، حسب تصريح لافت للرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون»، أثناء قمة باريس التى جمعته مع الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب».
الكلام الرئاسى الفرنسى كاشف لما هو جارٍ وملتحق به أكثر من أن يكون داعيًا له.
يلفت الانتباه فيه أنه حدد الأطراف المشاركة فى إعداد مثل هذه الخريطة بالدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن وعدد من الدول الإقليمية لم يذكرها وممثلين عن النظام السورى.
المعنى الصريح تجاوز محادثات جينيف وآستانة بين النظام والمعارضة التى تتعثر حول سؤال: أين الأولوية.. للانتقال السياسى أم للحرب على الإرهاب؟
مشكلة المعارضة المسلحة أن قوتها على الأرض تآكلت، ولم يعد بقدرتها أن تؤثر فى حركة الأحداث إلا بقدر ما تحوزه من دعم قوى دولية وإقليمية.
عندما يحين وقت النظر الأخير فى ترتيبات القوة والنفوذ فإن اللاعبين الهامشيين سوف يخرجون من المسرح ولا فرصة لرجاء من هنا أو هناك.
لعبة توزيع الجوائز والمغارم بدأت.
فى جميع السيناريوهات يصعب أن تعود سوريا والعراق، وبقدر آخر اليمن وليبيا، إلى ما كانت عليه.
العالم العربى يختلف وعواصف النار تقذف حممها إلى هنا فى مصر، حيث سيناء فى مرمى الخطر.
بقدر التنبه ينجو البلد بنفسه فى نصف العام المنذر.