نحو إدارة سليمة لاحتياطياتنا الدولية
محمد يوسف
آخر تحديث:
الأربعاء 16 أغسطس 2017 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
المحاولات الحثيثة التى تبذلها السلطات النقدية حاليا لترميم محفظة الاحتياطيات الدولية للاقتصاد المصرى للوصول بها لمستوى ما قبل 2011، هى محاولات محمودة ولا ريب فيها، ولكنها مع ذلك تستدعى تحليلا موضوعيا لدوافعها ولأدواتها وللنتائج التى يمكن أن تتمخض عنها، كى لا تصبح هى نفسها عبئا على الإدارة السليمة لتلك الاحتياطيات فى المستقبل المنظور.
نظريا، هناك اتفاق بين جمهور الاقتصاديين على ضرورة احتفاظ أى دولة بمقدار ملائم من الاحتياطيات الدولية من الذهب والنقد الأجنبى ووحدات حقوق السحب لدى صندوق النقد الدولى، تكون تحت تصرف سلطاته النقدية، لتحافظ بها على الثقة فى عملتها المحلية وفى مناخها الاستثمارى وفى جدارتها الائتمانية، ويجنبها اتخاذ قرارات نقدية تؤثر سلبيا على باقى المتغيرات الاقتصادية. ففى حالة العجز الطارئ أو المؤقت فى ميزان المدفوعات، يستخدم قدر من هذه الاحتياطيات فى موازنة جانب العرض فى سوق الصرف الأجنبى. أما فى حالة وجود فائض، فتلجأ هذه السلطات لإعادة بناء ما تم استخدامه فى فترات العجز. فالاحتياطيات الدولية ــ وفق هذا المنظور الاقتصادى ــ تقوم فقط بدور الموازن النقدى بين جانبى العرض والطلب فى سوق الصرف الأجنبى حال نشوء تغيرات طارئة ومؤقتة فيه.
على أنه فى مقابل هذه الخدمة الجليلة التى تقدمها تلك الاحتياطيات للاستقرار الاقتصادى، تتحمل السلطات النقدية تكاليف اقتصادية من جراء احتفاظها بهذه الاحتياطيات فى شكل أقرب للسيولة. ومع ذلك، فإن العوائد المترتبة عليها تبرر غالبا تحمل هذه التكاليف، بشرط أن يكون مقدار هذه الاحتياطيات ملائما للحاجة الفعلية للاقتصاد، والتى تختلف من اقتصاد لآخر، ومن فترة لأخرى فى نفس الاقتصاد.
***
دوليا، وفى محاولة علمية لتحديد هذا الوضع الملائم، نشر صندوق النقد الدولى فى عام 2012 ورقة عمل تجميعية لآراء خبرائه عن الحجم الأمثل للاحتياطيات الدولية وعن كلفة الاحتفاظ بها، فى ضوء خبرات الدول المتقدمة والنامية فى تكوين وإدارة تلك الاحتياطيات. وكان أهم ما توصل إليه هؤلاء الخبراء هو أنه لكى تنجح السلطات النقدية فى إدارة الاحتياطيات الدولية بكفاءة، ولكى تصل بها للمستوى الأمثل، يتعين عليها السيطرة على حجم الواردات وعلى مستوى المديونية الخارجية قصيرة الأجل. وبالتالى، ووفقا لآراء خبراء الصندوق، فإن كل المحاولات المبذولة لتحسين موقف تلك الاحتياطيات وتقليل تكلفتها ستبوء بالفشل إذا لم تُضبط الواردات، وأفرطت الدولة فى الاستدانة قصيرة الأجل. أما عن الحجم الأمثل لتلك الاحتياطيات، فقد أشار الخبراء إلى أن الخبرة الدولية تؤكد أنه يدور فى المتوسط حول قيمة تُغطى خمسة أشهر من الواردات الإجمالية للدولة.
مصريا، وتأسيسا على المنطق النظرى والخبرة الدولية المشار إليهما فى الفقرات السابقة، لا يمكن اعتبار حجم الاحتياطيات الدولية عشية يناير 2011 (36 مليار دولار) هو الحجم الأمثل الذى ينبغى الوصول إليه مره أخرى. فليست الأمثلية وضعا جامدا لا يتغير بتغير الظروف والأحوال، بل هى مرتبطة ارتباطا وثيقا بمتغيرات اقتصادية متعددة، وسياق تنموى تؤثر فيه وتتأثر به على الدوام. وبالتالى، ليس من المنطق الاقتصادى أن نبذل جهدا مُكلفا، كما سنوضحه لاحقا، لاستدعاء الرصيد نفسه فى سياق اقتصادى وتنموى مختلف.
ولما كانت الاضطرابات التى شهدها الاقتصاد المصرى بعد يناير 2011 قد نزلت بتلك الاحتياطيات لما دون 16 مليار دولار، فإن السلطات النقدية ــ بتوصية من صندوق النقد الدولى ــ خلال السنوات الثلاث السابقة جاهدت لترميم تلك الاحتياطيات بطرق مختلفة ومن مصادر متعددة. فتارة عمدت إلى المساعدات العربية، وتارة لجأت للاقتراض الخارجى، وتارة اعتمدت على حصيلة النقد الأجنبى المتأتى من الصادرات، حتى وصلت بها لقيمة صافية 36 مليار دولار، وهى نفس قيمة تلك الاحتياطيات قبل يناير 2011.
وبنظرة فاحصة فى المكونات الحالية للاحتياطيات الدولية للاقتصاد المصرى كما ترويها بيانات البنك المركزى، يمكننا تحديد الأوزان النسبية التقديرية للمصادر الثلاث السابقة. وتشير تلك البيانات إلى غلبة مصادر المديونية الخارجية فى تلك الاحتياطيات، سواء كانت فى شكل أوراق مالية أجنبية أو فى شكل ودائع لدى البنوك المستحقة للخارج، وما يعنيه ذلك من تراجع نصيب المصدرين الآخرين لترميم الاحتياطيات الدولية.
****
هناك سؤالان يطرحهما التحليل السابق لرصيد الاحتياطيات الدولية لمصر، الأول هو: هل الحجم الحالى لهذه الاحتياطيات يعكس الوضع الأمثل الذى يجب الوصول إليه؟ والثانى هو: هل العائد المترتب على ذلك القدر من الاحتياطيات يفوق، أو على الأقل يساوى، تكلفة بنائها؟
للإجابة عن السؤال الأول، دعنا نسترشد بالنسب المثلى التى عرضت لها ورقة عمل صندوق النقد الدولى المذكورة آنفا. فوفقا للخبرة الدولية، تُصبح الاحتياطيات الدولية ملائمة إذا غطت قيمتها القيمة النقدية لخمسة أشهر من واردات الدولة. وبالتالى، ووفقا للحالة الراهنة للواردات المصرية وما شهدته من تراجع طفيف فى العام المالى 2016/2017 (لاحظ أن قيمة واردات تسعة أشهر قيمة 43 مليار دولار تقريبا وفق بيانات وزارة المالية)، فإن المقدار الملائم للاحتياطيات الدولية يدور حول 24 مليار دولار تقريبا. أى إن المقدار الحالى للاحتياطيات يزيد عن المقدار الأمثل بأكثر من عشرة مليارات دولار. وينقلنا ذلك للإجابة عن السؤال الثانى.
إن العوائد التى ترجوها السلطات النقدية من احتفاظها بالرصيد الحالى للاحتياطيات الدولية تتمثل فى ثلاثة عوائد:
1. زيادة مقدرتها على السيطرة على سوق الصرف الأجنبى، حتى تتمكن من الإدارة غير المباشرة لسعر الجنيه «المعوّم»، وتحافظ على قيم مستهدفة له فى هذه السوق.
2. طمأنة المستثمرين الأجانب ــ الحاليين والمحتملين ــ على موقف الجدارة الاستثمارية للاقتصاد المصرى، وعلى قدرته الكاملة على تحويل أرباح هذه الاستثمارات للخارج.
3. تحقيق الاستدامة فى خدمة المديونية الخارجى؛ كى تشكل أساسا تستند إليه فى حال حاجتها للاقتراض الخارجى فى المستقبل.
ومع عظم أهمية تلك العوائد للوضع الراهن للاقتصاد المصرى، إلا أنها لا يجب أن تتفوق على تكلفة تكوين تلك الاحتياطيات، وخصوصا إذا كانت من مصادر غير دائمة كالاقتراض الخارجى.
صحيح أن النمو الأخير فى رصيد الاحتياطيات الدولية قد تزامن مع نمو سريع فى المديونية الخارجية (بلغت حاليا 74 مليار دولار تقريبا). غير أن هذا التزامن لا يقدم وحده دليلا على تفوق تكاليف الاحتياطيات على عوائدها. ولكن ما يجعلنا نعتقد فى هذا التفوق هو أن تحقيق العوائد الثلاثة التى ترجوها الحكومة من الاحتياطيات يمكن أن يحدث من خلال إجراءات حكومية فى الجوانب النقدية والحقيقية للاقتصاد المصرى، أى بدون الحاجة الاقتراض الخارجى لزيادة تلك الاحتياطيات عن الحجم الأمثل، والذى قدرناه آنفا بقيمة 24 مليار دولار تقريبا.
****
إننا إذ نعتقد أن تكاليف الرصيد الحالى للاحتياطيات الدولية تتفوق على العوائد المرجوة منها، فإننا نرى فى ذات الوقت أن الاقتصاد المصرى فى حاجة ماسة لمزيد من الإجراءات الضرورية لتتمكن السلطات النقدية من الإدارة السليمة والاقتصادية لتلك الاحتياطيات. فالتقييد الواعى لحساب رأس المال وحركة الأموال الساخنة (لاحظ أن ذلك عكس ما يلح عليه صندوق النقد الدولى دائما)، والسيطرة الكاملة على الواردات الترفيهية والكمالية وكبح نموها، وإتاحة الدعم الكافى للصادرات الزراعية والصناعية والسياحية، وضبط وتهيئة بيئة الاستثمار التشريعية والمؤسسية، وإزالة جميع العوائق أمام الاستثمار الوطنى والعربى والأجنبى فى قطاع الصناعة التحويلية، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية الحالية على التوسع بإعادة استثمار أرباحها، كلها إجراءات مساندة للسلطات النقدية لتزيد من العوائد المرجوة من الاحتياطيات الدولية. فتلك الإجراءات لن تقلل من الحاجة لمزيد من الاحتياطيات الدولية وتقلل من تكلفة تكوينها والاحتفاظ بها فحسب، بل ستساهم بصورة مباشرة فى تقليل حاجة الاقتصاد المصرى لمزيد من الاستدانة الخارجية فى المستقبل، وهذا هو مربط الفرس!