من «القاهرة باريس على النيل» إلى «القاهرة 2050»
خالد فهمي
آخر تحديث:
الأحد 16 سبتمبر 2012 - 8:10 ص
بتوقيت القاهرة
«نقول له دقيقة، دقيقة بس نتستر، احنا نايمين فى بيوتنا بالقمصان م الحر، يكسر الباب ويخش ويجر البنت ويقول لها اطلعى يا مـ.. يا متـ…ة يا و..ة وهى بنت بنوت، وداخلين علينا بالبتاع اللى على وشهم مش شايفين غير عنيهم، والراجل جوزى أهه، ده شكله إرهابى؟ فضل يضربه على دماغه والراجل يجيب من بطنه. ليه؟ ليه كل ده؟»
كلمات نقلتها أهداف سويف على لسان ضحايا الشرطة فى أحداث أبراج النيل التى وقعت يوم 2 أغسطس الماضى. مقال أهداف سويف الذى حمل هذه الكلمات المفجعة لم يضاهيه فى الدقة والقدرة على تحليل أحداث بولاق الدامية سوى تقرير بعثة تقصى الحقائق الذى نشرته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والذى قدم، فيما قدم، اتهاما صريحا لأحد ضباط الشرطة بالقتل العمد. التقرير قال إن عمرو البنى، أحد سكان منطقة بولاق أبو العلا، كان يعمل كغيره من جيرانه براتب شهرى فى تأمين الأبراج، وعندما ذهب لتلقى أجرته أطلق عليه أحد ضباط الأمن رصاصتين أصابت الأولى ساقه، واستقرت الثانية فى ظهره فأردته قتيلا.
مقال أهداف سويف وتقرير المبادرة المصرية كانا استثناءين محزنين للجوقة الإعلامية التى اعتمدت على رواية الشرطة ونقلت بدون تردد روايتها عن الأحداث وصورتها على أنها نتاج «بلطجة» سكان رملة بولاق أبوالعلا و«إتلافهم منشأة سياحية، ومقاومتهم للسلطات، وتلويحهم بالعنف ضد موظفى فندق فيرمونت القاهرة».
●●●
إن أحداث أبراج النيل برملة بولاق لم تكن نتيجة بلطجة سكان المنطقة بل انعكاسا لعقلية طبقية وعنصرية فجة فى التعامل مع سكان القاهرة وليس فقط مع سكان بولاق. تلك العقلية تجد أبشع تعبير لها فى مشروع القاهرة 2050 الذى يزعم أنه يهدف إلى زيادة «المسطحات الخضراء» فى العاصمة وأنه يشجع السياحة والاستثمار فيها. المشروع أعدته لجنة السياسات بالحزب الوطنى الديمقراطى المنحل، وبالتالى يفترض أنه أهمل وألقى به فى سلة القمامة، إلا أن أحداث أبراج النيل توضح بجلاء أنه ما زال ساريا بل مفعّلا وينفذ بشكل حثيث.
المشروع لم تتبناه محافظة القاهرة أو أى جهة رسمية، ولا نعلم عن تفاصيله الكثير، لكن من الشذرات التى يمكن الحصول عليها من الإنترنت يتضح أن العقلية المهيمنة عليه لا تعبأ سوى بالمبانى والطرق و«المسطحات الخضراء»، ولا تهتم بسكان المدينة إلا بكونهم يشكلون عائقا أمام رفعة المدينة وتقدمها، وحسب هذه الرؤية فإن سكان القاهرة بـ«فقرهم» و«تخلفهم» و«بلطجيتهم» هم المسئولون الرئيسيون عن التردى الذى أصاب العاصمة والذى منعها من اللحاق بركب المدن الكبرى كدبى والرياض وهونج كونج.
ما أراه مقلقا حقا فى هذا المشروع ليس فقط تواطؤ الجهات التنفيذية معه أو على الأقل مع الفلسفة التى تحكمه، كما اتضح من تصرفات الشرطة وأداء الإعلام فى أحداث أبراج النيل، لكن أيضا تواطؤ قطاع كبير من الناس، حتى ما يطلق عليه «المثقفين»، مع تلك الرؤية التى تنظر للمدينة على أنها مبانٍ وشوارع فقط ولا تكترث بالسكان أو بأحوال معيشتهم أوبالخدمات التى يستحقون الحصول عليها.
ففى حملة الانتخابات الرئاسية الماضية، مثلا، لم يتردد أحد المرشحين من أن يعلن أنه فى حال فوزه سيعمل على القضاء على العشوائيات التى تشوه صورة المدينة. أى هراء هذا وأى عبث؟ ألا يعلم هذا المرشح والكثيرون غيره ممن تؤذيهم صورة العشوائيات أن تلك المناطق غير المخططة تأوى ثلثى سكان القاهرة؟ أى أن أغلبية سكان العاصمة لا يسكنون الأحياء الراقية أو حتى الفقيرة بل يقبعون فى هذه العشوائيات، وأنه نتيجة لغياب الدولة قد ابتدع هؤلاء السكان حلولا مبتكرة تلبى حاجاتهم من مواصلات وعمل وسكن وصحة وتعليم؟ إن العشوائيات باقية، والتعامل معها لا يكون بالقضاء عليها (إلا إذا كان المقصود بذلك أنهارا من الدم) بل بتقديم ما يضمن لسكانها قدرا أدنى من الحياة الآدمية الكريمة.
●●●
ثم هناك «المثقفون» المهتمون بما اصطُلح على تسميته، خطأ، «القاهرة الخديوية»، تلك المدينة التى يرون أن الخديو إسماعيل شرع فى بنائها بعد الزيارة التى قام بها عام 1867 لباريس، عاصمة النور، وبعد أن أيقن أن مصر قطعة من أوروبا وصمم على تحويل القاهرة إلى باريس على النيل. هؤلاء المثقفون يعقدون ندوات عن عظمة المبانى التى شيدها أبدع المعماريين الأوروبيين فى وسط البلد والزمالك، ويتبادلون على صفحاتهم على فيس بوك صور القاهرة «الراقية» التى كان ينظم المرور فيها عساكر بوليس بملابس أنيقة مزركشة، ويتباكون على حال المدينة بعد أن وفد عليها ملايين الفلاحين وبعد أن غابت القوانين الرادعة وبعد أن اختفت «البلدية» و»التنظيم».
ما يغيب عن هؤلاء المتباكين على «القاهرة الخديوية» أن الخديوى اسماعيل قد يكون قد انبهر حقا بباريس، ولكنهم لا يتساءلون عن أى باريس أراد اسماعيل أن يحاكيها؟ عندما لحق على مبارك، ناظر الأشغال العمومية، بالخديوى اسماعيل فى باريس فى تلك الزيارة الشهيرة استلفت نظره أيضا هو الآخر الإصلاحات العديدة التى أحدثها البارون هاوسمان، عمدة باريس، والتى غيرت من طبيعة المدينة بشكل جعله غير قادر على التعرف على المدينة التى كان قد درس بها، هو واسماعيل، قبل ذلك بثلاثين سنة عندما كانا طالبين فى «بعثة الأنجال» الشهيرة. وفى وصفه لهذه الزيارة فى «الخطط التوفيقية» يوضح لنا على مبارك ما أبهره حقا فى باريس. لم تكن الشوارع المستقيمة أو الميادين الواسعة أو البنايات المتسقة أو التماثيل العظيمة التى ازدانت بها المدينة هو ما أبهر ناظر الأشغال العمومية. ما أبهره حقا هو شبكة المجارى العظيمة التى بناها هاوسمان أسفل كل شارع، والتى جعلت من باريس مدينة صحية ذات رائحة عبقة وهواء نقى.
وبعد عودته للقاهرة عمل على مبارك مع غيره من القائمين على المدينة من مهندسيين ومعماريين وأطباء، على تدعيم خدمات الصحة العامة التى كانت قد قطعت بالفعل شوطا بعيدا والارتقاء بها حتى تُعنى بالأحوال الصحية لسكان القاهرة. إن العناية بالصحة العامة، وليس الارتقاء بالقيم الجمالية، هى ما أبهرت اسماعيل وعلى مبارك فى باريس، وهى ما جعلتهما يضاعفا الجهد فى تحسين مستوى معيشة القاهريين. وكان من نتاج هذا الاهتمام بالصحة العامة العمل بجد ونشاط على القضاء على منابع المرض ومرتع الأوبئة، وكان من أهم هذه المخاطر الخليج المصرى الذى كان يشق المدينة من الجنوب للشمال والذى كانت تتحول مياهه لمستنقع آسن متعفن بعد انحسار فيضان النيل كل عام، وبالتالى رُؤى ضرورة تجفيفه وتحويله لشارع عظيم (شارع الخليج الذى أصبح بعد ذلك شارع بورسعيد). نفس هذا الاهتمام بالصحة العامة والتخوف من المياه العفنة هو الذى حدا بالقائمين على المدينة عام 1846 إلى تخفيف بركة الأزبكية وتحويلها لمنتزه عام.
●●●
إن القراءة الواعية لتاريخ القاهرة الحديثة يوضح لنا كيف كانت العناية بصحة سكانها والعمل على تحسين الخدمات الصحية لهم هو ما شغل حال النخبة المصرية فى القرن التاسع عشر. إن اختزال قصة القاهرة الحديثة فى الأوبرا وفيردى وولع اسماعيل بأوجينى يجافى الحقيقة ويغفل المجهود الجبار الذى قام به على مبارك والكثيرون غيره فى تحسين الخدمات المقدمة لسكان القاهرة، ذلك المجهود الذى يعبر عن موقف تقدمى اتخذه قطاع مهم من النخبة المصرية فى القرن التاسع عشر تجاه سكان المدينة.
أما وقد تخلت الآن الحكومة عن هؤلاء السكان وبعد أن أغشت أضواء مدن الخليج الخاوية أعين النخبة فلا بديل أمام سكان القاهرة سوى التأكيد على حقهم فى حياة كريمة والعمل على صياغة قانون للمحليات يمكنهم من التحكم فى مدينتهم ويجعل منهم سادة المدينة الحقيقيين بعد أن ظلوا عقودا طويلة يعاملون على أنهم ضيوف ثقلاء يجب التخلص منهم.