حين أصدر مجلس وزراء الخارجية العرب فى دورته الأخيرة، قرارا بتفويض الأمين العام للجامعة العربية بمهمة اختيار مبعوث عربى إلى ليبيا أحاطنى – ولا شك أحاطت بكل المواطنين العرب الشرفاء غبطة كبيرة لهذا القرار الذى يحيى الدور العربى الجماعى المفتقد منذ فترة طويلة إزاء هذا البلد الشقيق، والذى تصحح به الجامعة العربية موقفها السابق اتخاذه فى أعقاب ثورة 17 فبراير 2011 حين أحالت الأمر برمته إلى مجلس الأمن، ورحبت بتدخل عسكرى خارجى قام به حلف الأطلنطى تحت ذريعة حماية المدنيين فى ليبيا. ثم كان ما كان من سقوط لأركان الدولة الليبية وتشتيت لسلطاتها الوطنية بين ثلاث حكومات ومجلسين للنواب وعشرات التشكيلات والفصائل العسكرية المتناثرة فى الشرق والغرب والجنوب، وتعطيل للمرافق الاقتصادية الحيوية فضلا عن تنامى ظواهر الهجرة غير الشرعية عبر السواحل الليبية ونزوح السكان وتدهور الخدمات العامة فى أرجاء البلاد. وقد زاد على ذلك ظهور منظمات تكفيرية عنيفة وتمددها فى مواقع متناثرة وحساسة، بالإضافة إلى مقتل وإصابة واختطاف آلاف من أبناء الشعب الليبى وغيرهم من العمالة العربية والأفريقية والأجنبية الوافدة.
استحضرت فى ذهنى كل هذا الخراب الذى حل بهذا البلد العربى الشقيق واستحضرت أيضا انعكاساته الوخيمة على أمن واستقرار الدول المجاورة له، وعلى كل الدول العربية والأفريقية والأوروبية القريبة. ووجدتنى أمسك بالورقة والقلم لأضع تصورا لأبعاد التحرك الذى يمكن أن يقوم به المبعوث العربى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصير الليبى. ويشمل هذا التصور أهداف التحرك، والمبادئ الرئيسية الحاكمة له وأشكال التحرك وخططه المرحلية، والأدوات اللازمة لإنجاحه.
أهداف التحرك فى ليبيا:
• العمل على تقريب المسافات بين الفرقاء الليبيين وإنهاء ظواهر التعدد أو الازدواجية فى السلطات الشرعية والمؤسسات والرموز السيادية. وهو ما قد يشمل تحقيق بعض المصالحات الضرورية وإجراءات للعدالة الانتقالية وبناء الثقة بما فى ذلك إجراءات العفو والتعويض وجبر الضرر إلى جانب حل أو إدماج بعض الميليشيات والكتائب المسلحة، إلى جانب الجيش الليبى الوطنى.
• المساهمة فى إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس مدنيه وديمقراطية تكفل العدالة والتكافؤ فى تمثيل السكان والمناطق والخبرات الوطنية، وأولها مؤسسات الأمن والقضاء والتمثيل الخارجى.
• إعادة تأهيل الاقتصاد الليبى ومؤسساته الإنتاجية والخدمية للعمل بكفاءة ومهنية، ويشمل ذلك مرافق النفط والكهرباء والمياه، والموانئ، والمطارات، والنقل، والبنك المركزى، ونظم التمويل والاستثمار.
• تنشيط الاهتمام بالجوانب الإنسانية والاجتماعية وخاصة ما يتصل بأوضاع السجناء والنازحين، واللاجئين، وعائلات الشهداء والمعاقين، والعمالة العربية والأجنبية المتواجدة فى ليبيا.
• تعبئة الجهود والموارد الليبية والعربية والدولية لمكافحة المنظمات والدعاوى التكفيرية وقطع طرق الإمداد وقنوات الاتصال بينها والمواقع الخارجية، وتنسيق العمل فى ذلك مع جميع القوى السياسية والمكونات القبلية ومنظمات المجتمع المدنى ومؤسسات الجيش والأمن الليبى.
المبادئ والمنطلقات الحاكمة للتحرك العربى المأمول فى ليبيا
ينبغى أن تتوخى تلك المبادئ والمنطلقات خصوصية الأوضاع الليبية، وأن تعكس أيضا – وبقدر الإمكان ــ ملامح الثقافة والقيم العربية الأصيلة. وليس يعنى ذلك بالضرورة التنكر لبعض المبادئ والمفاهيم السياسية والإنسانية الأخرى التى أثبتت نجاحتها فى تسوية مواقف وحالات أخرى خارج المنطقة العربية.
وفيما يلى المبادئ والمنطلقات المقترحة كأساس للتحرك العربى المأمول فى ليبيا:
اولا: إن وحدة ليبيا أرضا وشعبا تعتبر قدرا ومطلبا فى آن واحد ليس فقط بالنسبة لليبيين وإنما لاعتبارات الأمن القومى العربى عموما.
ثانيا: إن المصالحة والتوفيق بين جميع الليبيين لم تعد اختيارا بل هى ضرورة للإبقاء على ليبيا موحدة ومستقلة.
ثالثا: أهمية الالتزام بالمنهج البراجماتى فى تحقيق التسويات بما يعنيه ذلك من إمكانية اعتماد أساليب التمرحل فى التسوية، وتقاسم الأدوار، وتجنب الأحكام المطلقة، والأخذ بمفهوم العدالة التصالحية.
رابعا: إن العدالة التصالحية تستمد شرعيتها وفاعليتها من كونها مسارا تشاركيا لا إقصائيا، أى أنها تتم – وحسب ما تفيد به تجربة جنوب أفريقيا الناجحة – بمشاركة الضحايا والجناة ومختلف القوى السياسية والمجتمع المدنى.
خامسا: التنسيق بين المبعوث العربى والمبعوث الدولى ضرورة لازمة باعتبار الأخير ممثلا لجميع الأمم المتحدة ومحكوما بميثاقها الأساسى وليس مبعوثا غربيا أو أوروبيا. ويمكن النظر فى طريقة لتقسيم العمل بين المبعوث العربى والمبعوث الدولى على نحو يحقق التكامل والفاعلية لهما وبينهما.
سادسا: إن اتفاق الصخيرات الذى نتج عن حوار سياسى بين الفرقاء الليبيين، يعتبر أساسا مهما ومرجعا رئيسيا فى عمليات التسوية السياسية وبناء الدولة الليبية. ولا يعنى ذلك استبعاد إدخال بعض التعديلات أو الإضافات إليه حسب ما يستجد من ظروف واحتياجات وبشرط التوافق الوطنى بين مختلف الشركاء الليبيين.
سابعا: رفض أى تدخل عسكرى أجنبى فى ليبيا إلا إذا كان الأمر فى إطار مطلب ليبى واضح يصدر عن مجلس النواب الليبى المعترف به وطنيا ودوليا، وفى إطار دعم القدرات الليبية الوطنية فى مجال مكافحة التنظيمات الإرهابية المحددة بالاسم فى قوائم وقرارات الأمم المتحدة.
ثامنا: ضرورة التوازى بين جهود التسوية السياسية والمصالحات الوطنية بين الأطراف الليبية من جهة وحسن توزيع الأدوار المعاونة من جانب الدول العربية، وفق اعتبارات القدرة والمزايا النسبية، وحسب احتياجات وأولويات الشعب الليبى ذاته.
بعض الآليات التنظيمية المقترحة لمعاونة المبعوث العربى
قد يكون من الملائم التفكير فى تشكيل بعض المجموعات الاستشارية والفرق الفنية المعاونة للمبعوث العربى، بما يساعده فى تقييم الأوضاع وجمع المعلومات وتخطيط التحرك وفى التوثيق والمتابعة. ومن المهم أن تتنوع خلفيات وتخصصات هذه المجموعات، بحيث تشمل فى بعضها ممثلين عن المكون القبلى والعنصر النسائى وبعض الخبراء الليبيين المخضرمين فى مجالات الاقتصاد والأمن والقضاء وفقه الشريعة، إلى جانب بعض الخبراء العرب من جنسيات وتخصصات مختلفة.