غريبا.. كيف يسيطر اليمين المتطرف على النقاش العام؟
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 16 سبتمبر 2022 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
تجاوزت دورة الحياة السياسية فى الغرب أحزاب اليمين واليسار التقليدية وتبايناتها المعلومة بشأن قضايا مثل الإنفاق الحكومى والنظم الضريبية والإعانات الاجتماعية وأطر الرعاية الصحية وحدود تدخل مؤسسات الدولة فى النشاط الاقتصادى والموقف من قضايا الحريات الشخصية مثل حق النساء فى الإجهاض وإقرار حق المثليين والمثليات جنسيا فى الزواج.
اليوم، يدور التنافس فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية حول قضايا أخرى ومعها تقفز إلى واجهة السياسة قوى يمينية متطرفة وشعبوية وقوى يسارية تحمل أجندة راديكالية.
يحتل مراكز الصدارة على قائمة القضايا الراهنة خليط من أمور إما لم تكن مطروحة على المجتمعات الغربية خلال السنوات الماضية أو ظلت حبيسة الهوامش وبعيدة عن قلب الحياة السياسية لا تقربها الأحزاب الكبيرة بأى حال من الأحوال.
اليوم، أضحى الانقلاب على المنظومة الحرة للتجارة الدولية بقرارات حمائية وبإنهاء اتفاقيات المناطق الحرة، كما يلحظ فى الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى وفى تهديدات أحزاب اليمين المتطرف فى إيطاليا والسويد وغيرهما بالخروج من الاتحاد وفى العقوبات التجارية والتعريفات الجمركية المتكررة التى تفرضها الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الصين، قضية انتخابية بامتياز.
اليوم، يحشد اليمين المتطرف أنصاره انطلاقا من تلك الأمور ويروج فى سياقها لنظرة شوفينية للاقتصاد العالمى والتجارة الدولية تدعى أن السبيل الوحيد للحفاظ على فرص العمل والاستثمارات الوطنية داخل الدولة المعنية إنما يتمثل فى إغلاق أبواب الأسواق المحلية أمام المنتجات والاستثمارات الخارجية ولتذهب حرية حركة البضائع ورءوس الأموال واليد العاملة إلى الجحيم.
فى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، خرجت الأجندة الحمائية من رحم الحزب الجمهورى وحزب المحافظين بعد أن اختطفت الحزبين قوى اليمين الشعبوى. بعبارة أخرى، خرج الاندفاع باتجاه الانقلاب على المنظومة الحرة للتجارة الدولية من رحم حزبين عرفا تقليديا بالدفاع عنها وبرفض تدخل مؤسسات الدولة فى الأسواق أو فى النشاط الاقتصادى وبازدراء الأجندات الحمائية، الحزب الجمهورى الأمريكى الذى جاء فى ثمانينيات القرن العشرين برونالد ريجان رئيسا وحزب المحافظين البريطانى الذى تزعمته مارجريت تاتشر وحكمت بلادها سنوات طويلة حتى بدت كرئيسة وزراء أبدية.
لا يقتصر الترويج للانقلاب على المنظومة الحرة للتجارة الدولية على قوى اليمين المتطرف والشعبوى، بل يتداخل فى الأمر أيضا وبمقترحات سياسية مشابهة اليسار التقدمى والراديكالى صاحب الخطاب المتخوف من «العولمة الاقتصادية والتجارية» والموقف الغائم من الأجندة الحمائية على النحو الذى عبر عنه عضو مجلس الشيوخ الأمريكى بيرنى ساندرز خلال السباق التمهيدى للانتخابات الرئاسية الأمريكية ٢٠١٦ و٢٠٢٠ حيث نافس ساندرز فى السباق التمهيدى للحزب الديمقراطى مرتين وخسره فى المرتين.
• • •
فى المساحة الفاصلة بين إغلاق أبواب الأسواق فى وجه المنتجات والاستثمارات الخارجية وبين إغلاق أبواب البلدان الغربية فى وجه غير الأشخاص الغربيين تظهر ملامح قضية كبرى أخرى، هى قضية الهجرة، تلك القضية التى تشغل الرأى العام الأمريكى والأوروبى وتجر من ورائها مسألة اللجوء والموقف من اللاجئين واللاجئات.
خلال السنوات الماضية، سعت أحزاب اليمين واليسار التقليدية إلى ترك قضية الهجرة بعيدا عن قلب التنافس الانتخابى وإلى اعتماد المتوازن من السياسات بشأنها على نحو يفتح أبواب الولايات المتحدة وأوروبا للمهاجرين واللاجئين من الجنسين، دون أن تغير المعدلات العددية لقدومهم هوية البلدان الغربية أو تهدد (وهو الأهم) نظم الأمان الاجتماعى (إعانات الفقراء والأشخاص العاطلين عن العمل وأطر الرعاية الصحية). ترك اليمين واليسار قضية الهجرة بعيدا على هوامش الحياة السياسية ولم تلتفت الأحزاب التقليدية إلى الخطر الذى كانت قوى اليمين المتطرف والشعبوى تحدثه هناك بالترويج لخطاب كراهية ضد الأجانب وبالمطالبة بوقف قدوم المهاجرين والمهاجرات انطلاقا من نظرة شوفينية بائسة تعادى الغرباء وتختزل هوية الغرب فى لون بشرة أو انتماء دينى أو مكان ميلاد.
ثم كان أن انفجر الأمر فى وجه البلدان الغربية، بالقطع مع استمرار ارتحال أعداد كبيرة من المكسيك والمجتمعات الفقيرة فى أمريكا الوسطى والجنوبية ومع نزوح أعداد غير مسبوقة من الأشخاص الفارين من جحيم الحروب الأهلية باتجاه أوروبا بحثا عن الحياة الآمنة، وباتت قضية الهجرة وتابعتها المتمثلة فى قضية اللجوء تتصدر التنافس الانتخابى وتأتى بالناخبين والناخبات إلى مراكز الاقتراع وتخرجهم كمواطنين ومواطنات فى احتجاجات متكررة. اليوم، اليمين المتطرف والشعبوى بخطابه الكاره للأجانب وبمفرداته الشوفينية التى تروج للخوف من الغرباء ومن استئثارهم بثروات «أهل البلد» يسيطر على التناول العام لقضيتى الهجرة واللجوء بينما تلهث أحزاب اليمين واليسار التقليدى للإبقاء على شىء من التعقل والرشد السياسيين وتتواصل خسائرها فى صناديق الاقتراع. هكذا أزيح قبل أيام الحزب الاشتراكى الديمقراطى عن حكم السويد بعد انتخابات برلمانية حسمها اليمين التقليدى واليمين الليبرالى واليمين الشعبوى لصالحه. وهكذا قد يفوز اليمين المتطرف والفاشى بالانتخابات البرلمانية القادمة فى إيطاليا والمزمع إجراؤها خلال أيام.
• • •
المراد هو إغلاق أبواب الهجرة فى وجه كل من يرغب فى قدوم الغرب لأسباب اقتصادية (البحث عن فرص أفضل للعمل) واجتماعية (الحصول على فرص أفضل للتعليم فى مراحل الدراسة الجامعية والدراسات العليا) وإنسانية (تعقب بعض الأقليات الدينية فى العديد من بلدان العالم خارج الغرب). والمراد أيضا هو إغلاق أبواب اللجوء فى وجه الأشخاص الفارين من جحيم الحروب الأهلية والإرهاب وفى وجه الباحثين عن حياة آمنة. بأجندة الكراهية والخوف هذه فاز ترامب فى الانتخابات الرئاسية ٢٠١٦، وبها فاز اليمينيون بالحكم فى السويد ٢٠٢٢، وبها فاز اليمين أكثر من مرة فى انتخابات النمسا وإيطاليا البرلمانية، وبها صار حزب «البديل لألمانيا» المتطرف والقريب من أوساط الحركات النازية القوة الحزبية الثانية فى بعض الولايات الألمانية فى الشرق، وبها اقتربت مارى لوبن من منصب الرئاسة فى فرنسا أكثر من مرة خلال السنوات الماضية.
لم يعد اليمين واليسار التقليديان بقادرين على مواجهة سطوة اليمين المتطرف والشعبوى فيما خص قضيتى الهجرة واللجوء، فالتردد السياسى والتخوف من خسائر انتخابية متتالية يكبلان أحزابهما. فقط قوى اليسار التقدمى والراديكالى هى التى تستطيع المواجهة من خلال تنظيم الاحتجاجات الشعبية وصياغة خطاب مرحب بقدوم المهاجرين والمهاجرات واللاجئين واللاجئات، وإن بحسابات تعنى ابتعاد اليسار التقدمى عن دوائر الحكم والائتلافات الحاكمة لسنوات طويلة قادمة.
أستاذ علوم سياسية، بجامعة ستانفورد
الاقتباس:
اليمين المتطرف والشعبوى بخطابه الكاره للأجانب وبمفرداته الشوفينية التى تروج للخوف من الغرباء ومن استئثارهم بثروات «أهل البلد» يسيطر على التناول العام لقضيتى الهجرة واللجوء بينما تلهث أحزاب اليمين واليسار التقليدى للإبقاء على شىء من التعقل والرشد السياسيين وتتواصل خسائرها فى صناديق الاقتراع.