الدستور و«المصريون فى الخارج »
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الثلاثاء 16 أكتوبر 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
مشروع الدستور الجارى إعداده منذ عدة أشهر موضوع للتجاذب السياسى منذ ما قبل أن تنشأ جمعيته التأسيسية الأولى، ولقد احتدم النقاش العام مؤخرا بشأنه، وبشكل محدد حول الأحكام الخاصة بالمقومات الأساسية للدولة، وبالحريات، وبحق المرأة فى المساواة، وبالإعمال الفعلى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
غير أن ثمة موضوعا غاب تماما عن النقاش العام، ألا وهو ذلك الخاص بوضع المواطنين المصريين العاملين أو المقيمين فى الخارج فى النظام السياسى المصرى، وبممارستهم للحقوق السياسية المترتبة على المواطنة واللصيقة بها. هذا الغياب يدعو للدهشة إذ لايكاد يمر يوم دون أن يشار فى الجدل السياسى والاقتصادى، وبشكل فيه غالبا كثير من المبالغة، إلى ملايين المصريين الذين يكدُون أو يمارسون حياتهم خارج البلاد، ويساهمون بمدخراتهم وتحويلاتهم المالية فى معيشة أسرهم وفى شدِ بناء الاقتصاد الوطنى، وعندما تتاح لهم الفرصة يشاركون بمعارفهم ومهاراتهم المكتسبة فى خدمة المجتمع المصرى.
إزاء احتدام النقاش العام، نشرت الجمعية التأسيسية منذ أيام نصا لما يبدو أنه تم الاتفاق بشأنه من أحكام الدستور، وهو نص غير مكتمل فعدد كبير من المواد لاتزال قيد الدراسة، على ما يرد فى النص المنشور، فضلا على أن عددا آخر من المواد فيه جمل بين أقواس، وهو ما يعنى أنها موضع للخلاف حتى الآن. القارىء للنص المنشور يسطع له خلوه هو الآخر من أى إشارة إلى المصريين العاملين أو المقيمين فى الخارج. إشارة وحيدة للهجرة ترد فى مشروع المادة 14 من باب الحقوق والحريات، فى سياق كفالة حرية المواطن فى التنقل والإقامة، حيث تضاف إليها الهجرة، ثم يردف النصُ أنه لايجوز إبعاد أى مواطن عن إقليم الدولة أو منعه من مغادرته والعودة إليه. يلاحظ أن الإشارة هنا هى للحق فى الهجرة، أما المهاجرون أنفسهم وحقوقهم فلا إشارة إليهم على الإطلاق.
●●●
قد يقول قائل أن ذكرا محددا لحقوق المهاجرين غير ضرورى حيث إن مشروع المادة الثانية من باب الحقوق والحريات العامة ينص على أن «المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة». غير أن الردَ على هذا القول يستقى من عدة نصوص فى نفس مشروع الدستور المنشور. أولا النصف الثانى من نص المادة الثانية ذاتها يضيف أنه لا تمييز بين المواطنين «بسبب الجنس أو الأصل أو (العرق) أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو الرأى أو الوضع الاجتماعى أو الاعاقة».
لم يرد بين أسباب عدم جواز التمييز مكان الإقامة ولذلك يمكن لتفسير تضييقى لهذه المادة أن يستند إلى نصفها الثانى لاستبعاد مصريى الخارج من حقوقهم فى المساواة وفى ممارسة كل حقوق المواطنة. والواقع هو أن النص المنشور لمشروع الدستور يميز بين المصريين فى مادتين أخريين تثيران مسألة أخرى مرتبطة بالهجرة ألا وهى مسألة ازدواج الجنسية. الأولى هى تلك الخاصة بشروط الترشح لرئاسة الجمهورية، حيث تنص المادة الثالثة من باب نظام الحكم والسلطات على أن يكون المرشح «غير متعدد الجنسية»، والثانية هى المادة 21 من الباب نفسه التى تشترط «فيمن يعين رئيسا للوزراء أو عضوا بالحكومة، أن يكون مصريا غير حامل لجنسية دولة أخرى».
دعك من الفارق فى صياغة الشرط بين المادة الخاصة برئيس الجمهورية وتلك المتعلقة برئيس الوزراء وأعضاء الحكومة، ولكن ما هو المبرر لجوهر هذا التمييز؟ أليس الحكم على أهلية المرشح لرئاسة الجمهورية، وصلاحيته للمنصب الرفيع، هو للشعب مصدر السلطات، الشعب الذى يختار من بين أبنائه أصلحهم فى وقت التصويت لقيادة البلاد للسنوات الأربع التالية؟ فإن كان المرشح غير صالح للمنصب أو مناسب له لطول إقامته فى الخارج وحمله لجنسية أخرى، فإنه يمكن للأحزاب والجماعات والأفراد أن يكشفوا ذلك لجمهور الناخبين أثناء الحملة الانتخابية وأن يدعوا الناخبين إلى عدم التصويت لهذا المرشح غير المناسب. الأمر نفسه ينطبق على رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة. صحيح أنهم لاينتخبون ولكن قبول مجلس النواب لبرنامج الحكومة، تعبيرا عن الثقة بها، هو من أركان تشكيلها، بمقتضى نص المادة العاشرة من باب نظام الحكم والسلطات، فإن رأى نواب الشعب أن رئيس الوزراء أو واحدا من الوزراء غير جدير بالثقة لأنه يحمل جنسية دولة أخرى، فما عليهم إلا أن يمسكوا عن قبول برنامج الحكومة. المفارقة هنا هى أن مشروع المادة السابعة من الفصل الخاص بالسلطة التشريعية لايشترط فيمن يترشح لعضوية مجلس النواب، وكذلك مجلس الشيوخ، إلا أن يكون مصريا متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية، بمعنى أنه يمكن أن يكون حاملا لجنسية دولة أخرى. خيرا فعل بذلك مشروع الدستور المنشور، ولكن مؤدى هذه الأحكام، إن نظرت إلى مجموعها، هو أنها توكل لممثلين للشعب، يمكن أن يحملوا جنسية دولة أو أخرى عملوا أو أقاموا فيها، أن يدلوا بالثقة أو أن يحجبوها عن مصريين يشترط فيهم ألا يحملوا أى جنسية أخرى!
قارن ما سبق بما ورد فى دستور المملكة المغربية المعدل فى سنة 2011، سنة الثورة المصرية، والمغرب هو الدولة العربية الثانية فى حجم الهجرة الصادرة عنها وفى الفوائد المالية المترتبة عليها، بعد مصر، إن استثنينا الحالة الخاصة للهجرة اللبنانية. «الحقوق والمصالح المشروعة للمواطنين والمواطنات المغاربة المقيمين فى الخارج» موضوع لثلاث مواد فى الباب الأول فى الدستور «أحكام عامة»، المقابل فى دستورنا لباب المقومات الأساسية للدولة. نجتزىء من هذه المواد من السادسة عشرة إلى الثامنة عشرة، فنجد أن المملكة المغربية تعمل على حماية لحقوق ومصالح هؤلاء المواطنين والمواطنات، وأنها «تسهر على تقوية مساهمتهم فى تنمية وطنهم المغرب، وكذا على تمتين أواصر الصداقة والتعاون مع حكومات ومجتمعات البلدان المقيمين بها أو التى يعتبرون من مواطنيها». و«يتمتع المغاربة المقيمون فى الخارج بحقوق المواطنة كاملة، بما فيها حق التصويت والترشح فى الانتخابات... المحلية والجهوية والوطنية». النص فى صراحته ووضوحه يعفى من كل تعليق.
●●●
اكتساب جنسية دولة الإقامة ليس تنكرا للأوطان الأصلية بل إن الغرض منه هو أن يتمكن المواطنون المغتربون من أن يتساووا فعليا مع مواطنى البلدان التى اغتربوا فيها، وأن يتمتعوا بكل الفرص التى يتيحها الاغتراب، وأن يتفادوا أشكال التمييز التى يتعرض لها الأجانب فى كل مكان. هذا ما دعا الأوطان الأصلية إلى إباحة ازدواج الجنسية، فضلا على سبب آخر هو أن من شأنها هى نفسها أن تستفيد من هذا الازدواج، فالمغترب المحقق لذاته كاملة يستطيع أن يسهم بأفضل ما عنده فى خدمة وطنه الأصلى وفى تنميته.
لقد اتسع نطاق الدراسات العلمية عن الهجرة فى هذا الزمن الذى أصبح الانتقال فيه ميسرا. قطاع من هذه الدراسات يثير فكرة الوطن الممتدِ إلى ما وراء إقليمه، ويشير إلى أنه بقدر ما يساند الوطن الأصلى مهاجريه المغتربين، فى بلدان قريبة أو بعيدة، ويعزز مواطنتهم، ويحميهم، ويفتح لهم قنوات الاتصال والمشاركة فى حياة وطنهم، بقدر ما يعملون هم على تحقيق مصالحه ويسهمون فى تنميته وفى النهوض به.
●●●
عندما صدر آخر الدساتير المصرية فى سنة 1971، لم يكن قد مضى إلا سنوات قليلة على تعديل قوانين الهجرة فى بلدان الهجرة الدائمة التقليدية فى أمريكا الشمالية واستراليا، ولم تكن أوروبا قد صارت مقصدا للمهاجرين، ولم تكن بلدان الخليج قد تحولت بعد إلى أسواق عمل هائلة لملايين المهاجرين من مشارق الأرض ومغاربها. منذ ذلك الوقت غادر مصر عشرات الملايين من أبنائها، عاد أغلبهم، وبقى ملايين منهم، سيعود بعضهم يوما، ولن يعود البعض الآخر. الدستور الجديد ينبغى أن يعكس هذا التطور غير المسبوق فى تاريخ مصر، وهو لابد أن يواكب التقدم فى تنظيم علاقة الأوطان بأبنائها فى زمن اختصر فيه المكان والزمان، وتكثفت العلاقات بين البشر والأوطان.