فكأنما أحيا الناس جميعا
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 16 أكتوبر 2019 - 9:25 م
بتوقيت القاهرة
هناك عالم كبير، بعيد، قاسٍ وبارد، يسكنه وحوش يلعبون كرة القدم بالكرة الأرضية فيشوطونها بأقدامهم، يتقاذفونها فى ضربات تسبب لها كدمات ولمن يعيش عليها كسور ورضوض لا يلتئم الكثير منها حتى مع مرور سنوات طويلة. يرمى أحدهم بالكرة فى الهواء، تطير وتقع على جنبها فينفجر بلد. يصل اللاعب الآخر إلى الكرة (الأرضية) ويضربها بعنف يقتلع قارة بأسرها من مكانها فوق رءوس اللاعبين الآخرين، وينفجر بلد آخر. تعود الكرة إلى الملعب وتلف بين الأرجل حتى تدوخ ويدوخ أهلها. أما اللاعبون فهم غير مهتمين بمن على الكرة الأرضية يصرخون من الألم والعوز. يستمر الوحوش بلعبهم وعنفهم ويستمتعون بإلحاق الأذى.
***
هناك عالم آخر صغير، قريب، حساس، يسكنه بشر يفتحون قلوبهم وجيوبهم لمن يحتاج، يلتقطون ما يدمره لاعبو العالم البعيد. هو عالم يضع سكانه القرش فوق القرش ليساعدوا من قل حظه دون ذنب منه. عالم يرفض فيه سائق عربة الأجرة نقودا من راكبة سورية فى نيويورك لأنه سودانى ويتفهم معنى أن يشوطك العالم بقدم من حديد. عالم تطلب فيه سيدة ألا يذكر اسمها حين تظهر عند كل مطب لتمسح على جراح من يحتاجها. هو عالم صغير يطبطب على أرواح مجروحة ويشارك أفراده بلهفة فى حملة جمع تكاليف مدرسة لطالبة لم يعد بقدرة عائلتها أن تدفع أجورا باتت غير إنسانية.
***
عالمان متوازيان لا يتقابلان، عالمان لا يجمعهما شىء، عالمان أراهما كجهازى تليفزيون يعرض كل منها قصصا خاصة به، أشعر أننى أرى شريطين فى الوقت ذاته فأحدق فيهما حتى يصيبنى دوار من زخم أحداثهما. أنا أدخل فى أول جهاز ثم الثانى وأعود إلى الأول فالثانى طوال الوقت. أتخيل علبة تليفزيون قديمة فأنا من جيل ما قبل الشاشة الرفيعة، أخرج من علبة تليفزيون إلى العلبة الأخرى. أدخل إلى الأولى فينفجر صاروخ فوق رأسى وأرى أشلاء تتطاير من حولى. أعود خطوتين إلى الخلف من هول المنظر فتظهر حرائق تلتهم غابات سبق وتمشيت بين أشجارها ولا أصدق ما أراه. ألف بوجهى عن الحرائق فأرى خيما إلى ما لا نهاية تأوى أشخاصا يحلفون لى أنهم أولاد عز تركوا بيوتا وبساتين خلفهم حين هربوا من الحروب.
***
أخرج من علبة التلفزيون المقيتة وأدخل فى العلبة الثانية بحثا عن عالم آخر. وبالفعل تستقبلنى ابتسامة ووجه بشوش، خبر سعيد وحضن دافئ أرتمى فيه وأشعر أننى عدت إلى حيث الأمان. فى هذه العلبة لم يسأل أحد عن الدين والعرق والبلد، لم يهتم اللاعبون بتفاصيل رأوا أنها تعطل بدل أن تسهل اللعبة. هم رفعوا اللاعب المصاب برفق ونقلوه بروية إلى مكان تحت الشجر. تناوبوا على رعايته وهمسوا فى أذنه كلمات مطمئنة حتى استكان. غطوه بعد أن نام وحرسوه حتى الصباح حين قام فشعر أنه أكثر نشاطا وأقل مرضا.
***
عالمان متوازيان، علبتان تحمل كل منهما حيوات تدمرت وناس تقطعت أحلامهم وأوصالهم. فى الأولى يستمر اللعب بالمصائر بينما فى العلبة الثانية يتم ترميم الأحلام بخيوط ملونة والكثير من الحب فى محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فى العلبة الأولى موارد ضخمة وإمكانيات هائلة تستخدم كلها لإحداث الدمار بينما تستخدم العلبة الثانية إمكانيات متواضعة لتصليح الكون وتنجح فى ذلك أيضا.
***
يضغط العالم الوحشى على العالم الحنون بكل ثقله، يحاول أن يقتلع منه النور، أن يعمى القلوب، يريد أن يطفئ الأمل ويمحو قوس قزح فى السماء. وها هو العالم الثانى يدفع بالظلام بكل ما يملك من عزم، يحرك الوحش عن صدره كمن يحاول الخروج من تحت صخرة دهسته فكادت أن تقطع أنفاسه. تخيلوا أشخاصا صغيرى الحجم يواجهون وحشا مسعورا تخرج من فيه النيران وهو يدوس بأقدامه وذيله الثقيل على كل ما حوله فيدمره. تخيلوا أشخاصا قليلى الحجم وأقوياء الإيمان، إيمانهم بأن زرع الخير لا بد أن يثمر، يلتقطون من تحت أقدام الوحش ضحاياه ويسرعون بهم إلى بيت آمن. قد لا يستطيعون أن يقتلوا الوحش أو يتخلصوا منه، قد لا يكونوا أصلا مهتمين بذلك فى خضم انشغالهم بمن يصرخ من الألم. ما يهمهم الآن هو عدم إثارة الوحوش أكثر والنجاة بمن سحبوهم من الميدان.
****
سلام إلى كل شخص مد يده لمن احتاجه رغم ظنه أنه أصغر حجما من الوحش. طوبى لمن لم ينكسر أمام الدمار ولم ينحن تحت الحمل الثقيل الذى سقط على صدره من أعلى الجبل إنما استمر بدفع الصخرة كما فعل سيزيف فى الأسطورة الإغريقية فظل يدفع بالصخرة حتى أعلى الجبل قبل أن تسقط فوقه مجددا فى الوادى فيعيد الكرة. هؤلاء هم أبطال العالم الكبار، المنتصرون على الوحوش والوحشية، زارعو الأمل ومعيدو ألون قوس القزح إلى السماء. من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.