بلى.. لأجل امرأةٍ لبنانية
صحافة عربية
آخر تحديث:
الإثنين 16 نوفمبر 2015 - 1:50 ص
بتوقيت القاهرة
لم يدفع بى عدم امتلاكى جواز سفرٍ لبنانيا إلى اعتبار نفسى غير لبنانية. لم تراودنى يوما هذه القناعة، لم أشعر يوما بنقصٍ فى لبنانيتى، مهما كان معناها. وعلى الرغم من الكم الهائل من المشكلات التى تنتج سنويا عن عدم امتلاكى جواز سفرٍ لبنانى (وهى راهنا فى أوجها)، فإنى أبقى دائما على ثقة بأنى صاحبة حقٍ، مانعوه عنى هم المعتدون على العدالة. أعرف تماما طعم التمييز ضدى، ولم أجد يوما فيه مدخلا إلى مذلتى، أو التشكيك فى قناعاتى عن نفسى، حتى فى عز المصاعب التى تواجه كل مَن هم فى مثل حالى. فأنا ولدتُ هنا، عشتُ هنا، وعلى الأرجح سأموتُ هنا، حاملة بطاقة إقامةٍ، أجددها تارة على اسم أمى اللبنانية، وطورا على اسم رب عملى اللبنانى، وأقرأ نفسى كواحدةٍ من وجوه التمييز التى يمارسها القانون بحق الناس. والعدالة مطلبنا جميعا، نحن المميز ضدنا.
ولكن، عندما يختار أصدقاء أن يربحوا نقاشا ساخرا معى بفكرةٍ ختامية تفيد بأنى، أساسا، «مش لبنانية»، أُقتل داخليا، ولو لثانيةٍ من الزمن. كأنهم يلغون وجودى، يلتقطون حنجرتى بإصبعين، ويضحكون.
نقاش الامتيازات
القوانين التى منعت عن أمى حقها فى منحى جنسيتها هى بالطبع ذكورية، لكنها ليست محدودة بهذا التعريف. فالذكورية، كما العنصرية، لا تفسر نفسها بنفسها. لا نولد هكذا، إما عنصريين أو لا، إما ذكوريين أو لا. تلك بنى فيها ضغوط وفيها مكتسبات وفيها سلطات. ليست «مشاكل» فى المعرفة لكى يمكن علاجها بالتنوير حول الظلم الذى تسقطه بمن يتعرضون له. هى مشاكل يستهدف حلها بنى كثيرة يقوم عليها المجتمع ونظامه، فتختل لما تخرج تظاهرة تطالب بتجريم العنف الأسرى.
أما مشكلة الجنسية والأم اللبنانية فتتيح للمشرعين أن يُشهروا أسبابا لا تبدو فى ظاهر الحال وكأنها وليدة ذكورية محضة، خطوطها الفاصلة ليست على هذا القدر من الوضوح، والدم فيها ليس سائلا يُحرِج. تتيح مشكلة الجنسية للنظام السياسى والقانونى والاجتماعى ما لم يتحه لهم العنف الأسرى، إذ تتيح للنظام أن يضع الناس فى مواجهة الناس، أن يُحدث قسمة بين«جميعنا» الذى يمتلك حقا و«بعضنا» الذى لا يمتلكه. تتيح له أن يسوق الحجج ضد التجنيس وكأننا فى جدلٍ عام يُشرك المصلحة العامة: هل نسمح، «يا قوم»، لبعض اللبنانيات منا، اللواتى ارتأين الزواج من فلسطينيين، سوريين، مصريين،... أن يهزوا الأرض تحت أقدامنا، فلا نعود نعرف عددنا ولا مداخلنا ولا مخارجنا؟ أم يتوجب علينا أن نعيق بعض العدالة من أجل الحفاظ على الاستقرار؟ الاستقرار نفسه الذى يتم إيقاظه فى بلاد العرب عند كل ثورةٍ أو اعتراض، كبديلٍ عملى عن عدالةٍ نظرية. الاستقرار على حالٍ قد تتفق أكثريةٌ على إجحافها، يُساق كامتيازٍ يمتلكه بعضٌ من كلٍ. والامتياز يوحى بتميز عن آخرٍ لا يتميز بامتياز. ومن واجب المتميزين أن يسودوا فاقدى التميز.
الأصالة.. والتهجين ضدها
المميز فى نقاش حق المرأة اللبنانية بامتلاك جنسيتها هو صراحته. مجتمعٌ ربه ذكر يشهر سلاحَى الدين كأساسٍ للسلطة و«العِرق» الصافى كعاملٍ اقتصادى، فى مواجهة جهالة بعض النساء. هؤلاء سيتسببن بخللٍ فى استقرار السلطة انتخابيا وفى استقرار لقمة العيش اجتماعيا. لن نتكهن حول الأسباب الخفية وراء تجنيس مسيحيين حينا والتهويل من الفلسطينيين والسوريين والمصريين وسوانا أحيانا. فكافة خطوط التماس المتجذرة اجتماعيا ستُستدعى صراحة كعوامل حاكمة فى هذا القرار والاستقرار. تُستدعى بوضوحٍ فج، لتحصد قلقا من مطلب.
ليست المسألة فى سوء فهم زوج اللبنانية وأولادهما. لا يهم نفض الجريمة عنا، ونفى الغباء عن أمهاتنا، وتفنيد معايير الأصالة. لا يهم الظلم الواقع علينا، ما ينتج عنه من كتمان قيد حينا، وكتمان وجود أحيانا، لا تهم المصيبة التى تتربص بكل منا عند كل مفترق. لا يهم إحساس أمهاتنا بذواتهن، وجعهن كلما صادفتنا مشكلة، غضبهن كلما اصطدمنا بحائط، وعجزهن كلما أصابتنا الجنسية بضرر. لا يهتم النظام والخائفات والخائفون على استقراره لحقوق أمهاتنا، لا يهتمون لتناقضات فجة بين استعادة الجنسية للمتحدرين ورفع الظلم عنا. جميعنا يعرف أن الذى يرطن بالكبة النية منذ أكثر من مائة عام فى بلادٍ بعيدة ليس أحق بالجنسية ممن تعيش تحت وطأة الزبالة وفى خضم أحداث البلد، بجسمها وأعصابها وصبرها وأملها. لا يهم ذلك كله، فقضيتنا هى قضية نظامٍ حاكم، ذكوريته تبدو فى استشراسه ضد كل آخر لا يخدم نموه و«استقراره». قضيتنا تمس الانتخاب والسياسة والاقتصاد والمجتمع والحرب الأهلية والسلم الخطر وحقوق كل مواطنة ومواطن بحياةٍ كريمة. قضيتنا تصيب النظام فى صلبه، ولو لم يكن ذلك جليا. إن البنية الذكورية الحاكمة ليست شأنا معزولا فى قضايا معزولة يكون حلها بإضافة «بند المرأة» على كل جدول أعمال. ولا النسوية تقوم على مطلب إضافة هذا البند. النسوية هى مطلبٌ عمقه تغيير نظام الامتيازات الذى يحدد سقف الذكورية، واستبداله بسقف العدالة فى صياغة الحياة العامة.
أسباب النضال واحدة
نناضل من أجل نظام أقل ظلما وأشد عدالة، ولن نرضى بعزل المطالب ولا بتقطيعها، كما قالب الحلوى. نناضل بالرهان على الصبر والوقت، وفى مختلف ساحات التظاهر. وهذا ما حصل فى الحراك الشعبى.
القضايا ليست معزولة، ولا حلولها كذلك. والمكتسبات ليست باقية، ولا أصحابها. لكن الطريق طويل، وهو أمامنا. لم يبدأ اليوم وإنما تراكم على الأقل لعقدين من الزمن. ولن ينتهى غدا، برشة ماء أو قنبلةٍ سامة. رمق الناس أطول من رمق الأنظمة. إذ يمكن لمحاولى الإصلاح العابرين أن ينتزعوا إقامة وإجازة عمل مجانيتين لأولاد اللبنانية بالاستناد إلى نضال «جنسيتى، حق لى ولأسرتى»، لكن النظام يلفظ مصلحيه. ولسوء حظ النظام، فإن المرأة اللبنانية طويلة البال جدا. وتلك «الأصالة» التى تنظر اليوم للجنسية، ستلقى مصير «العراقة» التى نظرت منذ عقدين لـ «بيروت المستقبل»: بدأت شعارا مليئا بالمال والسلطة والإجماع، وانتهت رقعة أشباحٍ قلقة، تنظر بريبةٍ إلى الناس فيها ومن حولها.
السفير ــ لبنان
سحر مندور