هدايا البنات
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 16 نوفمبر 2023 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
صار اختيار الهدايا لبنات العائلة في أي مناسبة من المناسبات مشكلة بل ومشكلة كبيرة أيضًا، كنّا نظن أنفسنا آباءً وأجدادًا رِوشين وعلى الموضة حتى تبيّن لنا أننا واهمون، وأن قرونًا ضوئية تفصلنا عن الأجيال الجديدة من أول سنّ الثماني سنوات صعودًا. نسأل بنات اليوم عن هدية السفر أو عيد الميلاد أو النجاح أو.. أو.. فلا تخترن أي هدية مما يمكن أن يخطر ببالنا، تخترن أنواعًا من كِريمات العناية بالوجه والجسم والشعر.. إلخ. بنات مفعوصة لا تكاد تراهن بالعين المجرّدة ولم يتخلصن بعد من لثغة الطفولة المحببة في السين والراء، لكنهن يعرفن بالضبط ما يردن، يحددن لك أنواع المساحيق المطلوبة واستخداماتها المختلفة ويشرن عليك بماركة معينة لم نعرفها نحن إلا على كَبَر عندما اشتغلنا وصار لنا مصدر دخل، ورغم ذلك دائمًا ما كانت تأتي هذه الأشياء في ترتيب متأخر من أولوياتنا ليس لأننا لا نتعامل مع الكماليات، لكن لأن الكماليات تحتاج هي نفسها إلى ترتيب تنازلي من حيث أهميتها. كنت أظن في البداية أن هذه الظاهرة قاصرة على بنات عائلتي وكدت أجن بحثًا عن مصدر هذه التطلعات العجيبة، فأقصى ما كنّا نستخدمه على أيامنا كِريمات لمعالجة حَبّ الشباب لا أكثر ولا أقل وكانت المنتجات في أغلبها مصرية وكان اللجوء لها على سبيل العلاج لا التجميل، كانت الحياة بسيطة وكانت مطالبنا أيضًا بسيطة. أقول كنت أظن أن الموضوع عائلي ثم فوجئت أنه يمثّل ظاهرة عامة بين بنات الطبقة الوسطى، فقد حكت لي صديقة عن حفيدتها ذات العشر سنوات التي طلبَت منها مستحضرات لشّد الوجه-أي والله لشدّ الوجه- عند عودتها من تركيا، وتكرّر الأمر مع صديقة أخرى مع بعض اختلافٍ في التفاصيل، وهكذا بدا لي كما لو أن هناك مَن نفخ بودرة العفريت في هذا الجيل الجديد كما حدث في فيلم "عفريتة هانم" فإذا كل بنات الطبقة الوسطى المنتميات لهذا الجيل يسري فيهن نفس التفكير.
• • •
بيوتنا ليست هي مصدر تنشئة الأجيال الجديدة على هذه الثقافة لأنها ثقافة استهلاكية مكلّفة جدًا وأضيف لأنها مضرّة أيضًا، فمازلتُ لا أستوعب كيف يحتاج جلد الأطفال إلى ترطيب وتنعيم ولمعان، وأحدّث نفسي بأنه عندما تكبر بنات هذا الجيل ستعلمن قيمة أن تكون للمرأة بشرة في نضارة بشرة الأطفال. المدرسة لها دور بالتأكيد، فبودرة العفريت هذه التي تتناثر ذراتها بين بنات اليوم لابد لها من بيئة وحاضنة وسياق، والأسر التي تنتمي للطبقة الوسطى ويضع فيها الأبوان القرش فوق القرش ويضنّان به على نفسيهما لتهيئة مستوى محترم من التعليم للأبناء لأنهما يعتبران أن الاستثمار في التعليم هو أفضل استثمار ممكن، هذه الأسر في مقابلها أسر أخرى من الطبقة العليا يحدّد فيها الأبوان نوع التعليم الذي يختاراه لأبنائهما بناءً على ما يحققه لهما من وجاهة اجتماعية، وفي داخل المدرسة يقع التفاعل بين أبناء الطبقتين ويسود على الأرجح منطق السوق ويكسب لأنه المنطق الأكثر إغراءً وجذبًا وبريقًا، وهكذا يتطلّع الصغار إلى ما كان لا يمكن تصوّره والتفكير فيه. بطبيعة الحال كانت الفجوة الطبقية في مجتمعنا دائمًا موجودة لكنها أبدًا لم تكن بهذا الاتساع ولا بهذه الضخامة، والمدرسة هي جزء لا يتجزّأ من المجتمع والتفاوت الطبقي فيها حقيقة واقعة. في مدرستي سواء تلك التي درستُ فيها حتى المرحلة الإعدادية أو تلك التي أتممتُ فيها المرحلة الثانوية كان لدّي في نفس الفصل بنات بعض كبار رجال ثورة ١٩٥٢ وسليلات أسر وفدية عريقة كما كانت لدّي زميلات من أسر فنية وإعلامية مرموقة فضلًا عن عدد لا بأس به من بنات الجاليات الأجنبية، ورغم أننا لم نكن من طبقة واحدة بالتأكيد، إلا أن الفوارق والاختلافات كانت محدودة ولم نكن نشعر بها. مثل هذا التشابه في ما بيننا كان يظهر في تفاصيل بسيطة كطريقة احتفالنا بأعياد ميلادنا مثلًا، تقريبًا كانت نفس طريقة الزينة ونفس شكل التورتة ونفس فقرات الاحتفال ونفس الهدايا الرمزية، وظل هذا هو الوضع مع أبنائنا في مرحلة الطفولة مع إضافة فقرة الأراجوز أحيانًا أو فنان مغمور يقوم بتمثيل دور دبدوبة التخينة، كنّا سعداء وأظن أن أولادنا أيضًا كانوا سعداء. الآن اختلف الأمر تمامًا وصارت الاحتفالات بأعياد ميلاد الأطفال تقام في فنادق خمس نجوم، وبالنسبة للطبقة الوسطى فلقد أصبح عليها أن تختار بين تعليم جيد لأبنائها مع ثقافة استهلاكية مُبالَغ فيها يتشرّبونها من المدارس التي تقدّم هذه النوعية التعليمية المتميّزة، وتعليم آخر غير منتج وغير مُعلّم إذا جاز التعبير مع تطلعات استهلاكية أقل بكثير في المدارس التي تقدّم هذا الشكل من التعليم. وعلى الأرجح تتجّه أسر الطبقة الوسطى لاختيار البديل الأول، فالمنافسة في سوق العمل شديدة ولا يقتنص الوظيفة إلا المختلف. فكيف لنا إذن أن نحمي أولادنا وأحفادنا من ثورة التطلعات الاستهلاكية من دون أن نضطر للتضحية بمستوى تعليمهم؟ الإجابة في منتهى الصعوبة لأن وسائل التواصل الاجتماعي تغذّي تلك الثورة بكل الوسائل الممكنة من أول الألوان المبهرة والخدع البصرية وحتى سائر ألاعيب الفوتو شوب والفلاتر.
• • •
كتبتُ قبل أسبوعين عن زيارتي لمدينة أصيلة المغربية البديعة، وبينما أكتب مقال اليوم تذكرتُ صديقتي الأديبة العراقية الرائعة التي التقيتها هناك ولم نكن نعلم لا أنا ولا هي أننا سنلتقي صدفة. لكنها استقبلتني بودّها المعهود وابتسامتها المريحة قائلة: جبت لك هدية. انصرفَت من أمامي وعادت في لمح البصر من غرفتها في الفندق وهي تمسك بهديتين لا هدية واحدة: أحدث رواياتها وعليها إهداء جميل و... ليفة حمام غير تقليدية قالت لي إنها اختراع فرنسي مدهش. أما الشعور الذي انتابني ساعتها فكان مزدوجًا، شعور بالامتنان الشديد لهذه الصديقة التي تحتفظ معها بهدايا تهادي بها أصدقاءها وإن التقتهم صدفة، والصداقة تقوّيها مثل هذه التفاصيل الصغيرة الحميمة. وشعور بالفضول الشديد من ردّ فعل بنات العائلة إن هنّ علمن أن صديقتي العزيزة أهدتني ليفة فرنسية مزركشة بينما أن كل ما يعرفنه عن فرنسا أنها بلد هدايا المساحيق والكريمات ومستحضرات التجميل من الماركة الشهيرة إياها.