«جاذبية سرى» على ماسبيرو زمان

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: السبت 16 نوفمبر 2024 - 7:15 م بتوقيت القاهرة

(1)
مرت منذ أيام قليلة ذكرى رحيل الفنانة التشكيلية الرائعة جاذبية سرى (1925 ــ 2021). لا يتوقف الكثيرون عند فنانى مصر العظام من الرسامين والنحاتين والتشكيليين للأسف الشديد! ربما باستثناء صديقى الناقد الكبير محمود عبد الشكور الذى قدم للفنانة الراحلة التحية بنشر عددٍ من لوحاتها الرائعة على صفحته الشخصية، وكتب عنها «ذكرى رحيل الفنانة التشكيلية العظيمة جاذبية سرى التى تركت بصمات مدهشة، عبر مراحل فنية متنوعة، وشديدة الثراء». أقول ربما باستثناء محمود عبد الشكور، لم يهتم أحد بتذكر واحدة من أعمدة فننا التشكيلى المعاصر، فنانة كبيرة وقديرة لها تاريخ!
وقد لا يعرف الاسم إلا من اتصل بمحبة الفن التشكيلى، وتذوق التصوير «الرسم»، لكن الاسم وصاحبته تحتل مساحة ليست هينة فى تاريخ الحركة التشكيلية المصرية فى القرن العشرين، لقد تتلمذت على يد أعاظم هذه الحركة وألمع أسمائها وصناع مجدها، يكفى أن أستاذها الأول والذى تولى توجيهها وإرشادها فنيا هو الفنان محمد صبرى، وهو من هو فى فنه وقدره وإبداعه.
إنها، وكما يصفها محقًّا الكاتب والناقد التشكيلى ناصر عراق، واحدة من جيل الرائدات فى عالم الفنون الجميلة، فهذه الفنانة التى عاشت 96 عامًا أسهمت بنصيب وافر فى تعزيز الحركة التشكيلية المصرية التى بدأ تبلورها مع تأسيس مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1908.
(2)
متى تعرفتُ على اسم «جاذبية سرى» وتوقفت عند لوحة من لوحاتها؟
أذكر أن المرة الأولى التى صافحت فيها عينى لوحة للفنانة الكبيرة، كانت على غلاف واحدٍ من إصدارات (مكتبة الأسرة) خلال الفترة من 1998 وحتى 2010. خلال تلك الفترة الخصبة من تاريخ ذلك المشروع، كانت أغلفة الكتب مزينة بلوحات كبار الفنانين المصريين والعالميين، فضلا على نبذة تعريفية موجزة باللوحة وصاحبها!
وهكذا حقق المشروع أهدافًا عدة بحجر واحد، وفَّر كتابا قيِّما بسعرٍ زهيد لمن يبحث عنه، ووفر أيضًا مصدرًا متاحًا وبسيطًا لترقية الذائقة البصرية وإثرائها بأعمال كبار الفنانين والفنانات، ومن هنا عرفتُ للمرة الأولى (ولم أكن جاوزت ست عشرة سنة) أسماء إنجى أفلاطون، وتحية حليم، وزينب السجينى، وجاذبية سرى.. وقد زينت أعمالهن أغلفة (مكتبة الأسرة) التى شكلت عقلى ووجدانى، ومثلت رافدًا تكوينيًّا وتأسيسيًّا فى حياتى كلها خلال تلك الفترة.
لوحات جاذبية سرى فيها شىء غريب يشدك لأول وهلة! ألوانها ربما! خطوطها العجيبة المدهشة! طريقتها فى التعبير عن الأشخاص والشخصيات التى ترسمها!
بعض النقاد يفسر هذا الأمر بأن أفكار وتوجهات جاذبية سرى قد اتسقت مع أعمال الفنانين الذين كانوا يبشرون فى أعمالهم بالواقعية المصرية الحديثة فى الفن، وحرص أفراد هذا الاتجاه على البحث التقنى والجمالى فى إطار الالتزام بقضايا البناء الاجتماعى الوطنى، باعتبار الفن التشكيلى مكونا أساسيا فى الثقافة المصرية الشعبية، كموروث حضارى، للدرجة التى تصل إلى أن يعلنوا عن طموحهم وهو التثقيف بالفن.
لكن وربما يكون الأهم، وفى حدود إدراك محب للفن، وباحث عن التذوق (دون أن يدعى أى قدرة على التحليل العميق أو الطرح المتخصص) هو الأسلوب الفنى المتميز الذى اختطته إن جاز التعبير، ريشتها لها خصوصية لا تقلد أحدًا، درجات ألوانها الأقرب إلى القتامة منها إلى النصوع تحدث تأثيرا نافذا وعميقا من الصعب التملص منه أو مقاومته، لوحاتها متصلة أشد الاتصال بروح الثقافة المصرية العريقة، وجوهرها، أصالتها نافذة، وحداثتها مبتكرة، إن لم يكن هذا هو الفن، فعن أى فن نتحدث إذن؟!
(3)
على قناة الونس والجمال، وما بقى من ريحة أيامنا الحلوة، (ماسبيرو زمان)، شاهدت هذه الحلقة النادرة من برنامج «شريط الذكريات» الذى كان يعده ويقدمه الراحل فاروق شوشة.. لا أنسى هذه الحلقة المذهلة من هذا البرنامج الجميل الأصيل القيم، ذلك الكنز المنسى من تراثنا الثقافى المهدر.. فى هذه الحلقة استضاف فاروق شوشة الفنانة التشكيلية الراحلة «جاذبية سرى»، وأدار معها حديثًا ممتعًا عن مسيرتها الفنية، وحياتها وتعليمها ودراستها الفنية فى أوروبا وأمريكا وإنتاجها التشكيلى، وبمن تأثرت وكيف عملت على اختطاط مسار خاص بها... إلخ
ثم نفاجأ بعد مضى نصف الحلقة تقريبًا بظهور من؟
يظهر إلى جوارها الناقد الموسوعى الفذ رفيع الثقافة والذوق واسع الاطلاع الدكتور لويس عوض، ويقدم عرضًا فخيمًا ورائعًا عن ثقافة التذوق الفنى وآلياته، يتحدث عن تطور الحركة التشكيلية فى مصر، ويربطها بالمدارس والتيارات الفنية العالمية، يقدم مفاتيح موجزة ودقيقة لقراءة اللوحة الفنية، ويبرز بعض مشكلات التلقى الجمالى ومنها ــ على سبيل المثال ــ اتساع الفجوة أو المسافة بين تلقى الفنون العالية فى أوساط النخب والمثقفين وبين عموم الجماهير.. ويتنقل من الفن التشكيلى إلى الموسيقى والغناء والأدب والشعر والنقد والتذوق وثقافة الفنان وتكوينه... إلخ.
هذه هى قيمة مصر الكبرى، وعطاؤها للفن والإبداع والإنسانية. جمال ما بعده جمال والله العظيم!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved