البقاء داخل الصندوق!
سلامة أحمد سلامة
آخر تحديث:
الأربعاء 16 ديسمبر 2009 - 12:41 م
بتوقيت القاهرة
قدمت الانتخابات التى شهدتها نقابة الصحفيين لاختيار نقيب جديد، نموذجا مصغرا يكاد يقترب من الواقع، لما يمكن أن تكون عليه الانتخابات العامة، سواء كانت انتخابات رياسية أو برلمانية، إذا حسنت النيات وتوافرت الشروط التى تضمن نزاهتها. بل لعلها أثارت سؤالا مشروعا، هو لماذا لا تكون الانتخابات فى مصر دائما بهذه الصورة؟
فلم يحدث فيها ما يحدث عادة من تدخل صريح أو مكشوف من جانب اليد الغليظة للسلطة. على الرغم من التأييد المعنوى والمادى الذى حظى به النقيب المنتخب مكرم محمد أحمد.. فانتزع بجهوده وصلاته الوثيقة بعض المكاسب المهمة للصحفيين. فى مواجهة تيار مستقل يدعو للتغيير قاده ضياء رشوان، والذى لقى بحكم طبائع الأمور والرغبة المجتمعية الجارفة فى البحث عن بدايات جديدة للمستقبل تأىيدا واسعا بين جموع الصحفيين، وأجيال الشباب منهم بخاصة.
لقد ترسخ فى أذهان الكثيرين ومن خلال الممارسات التى شكلت الوعى السياسى العام، ان الشعب المصرى قد أدمن أسلوب تزوير الانتخابات وتسويد الصناديق وشراء الأصوات، وأن الطريق مازال طويلا قبل أن يتحقق نظام حكم ديمقراطى صحيحا.. إلى الدرجة التى أوحت لبعض القيادات أن تعلن أن الشعب المصرى لم ينضج بعد لممارسة الديمقراطية. وهو ما يعيد إلى الأذهان مقولة تزعم أن «القابلية للاستقلال» فى الرأى أو فى الحكم مازالت بعيدة المنال. ولكن تجربة الأيدى النظيفة فى انتخابات نقابة الصحفيين لابد أن تدحض هذه المقولة.
فلا جدال فى أن معركة الصحفيين كانت معركة ساخنة بكل المقاييس. شهدت من فنون المبارزة النقابية والسياسية على أعلى ما تكون من البراعة بين الطرفين. واستخدمت فيها الأساليب المعروفة من الإغواء والإغراء الذى يلبى حاجة الصحفيين وطموحاتهم وتطلعاتهم. وعكست المعركة بشعاراتها وبرامجها التى ادعى كل طرف أنه قادر على تحقيقها، وبعمليات الحشد والترغيب، صورة حقيقية لفئة من فئات الشعب، متعلمة أو أكثر استنارة عن غيرها.، إذ توزعت جماعة الصحفيين بين الحيرة وعدم اليقين. بين البقاء داخل الصندوق الذى فرضته الظروف السياسية والمؤسسية الحاكمة، أو الخروج منه إلى الهواء الطلق.. إلى حرية الاختيار والمخاطرة من أجل المستقبل.
اعتمد النقيب مكرم على رصيد غزير من الخبرة الصحفية والمهنية الفائقة، وعلى تاريخ طويل من العلاقات الإنسانية والصداقات والرياسات التى تقلب فيها فى الأهرام ودار الهلال.. وعرف كل صغيرة وكبيرة فى حياة جيل كامل من الصحفيين، من الشباب وجيل الوسط. وهو فوق ذلك كله يحظى بثقة الحكم ويعرف كيف يتعامل مع مؤسساته وقياداته. وقد مشى خطى فرضت عليه أو اختارها هو بنفسه.. الصحفيون يعانون من اختناق مادى، واحتباس مهنى، وتخلف مؤسسى.. فنجح فى أن يلوح بوعود يمكن الحصول عليها، ويسهم فى حل قضية صحفيى «الشعب» التى ظلت عصية على الحل سنوات حتى حنّ قلب الحكومة دون أسباب غير مساندته. وكان ذلك كله فيما أظن من أسباب الحصول على أصوات الذين لم يصوتوا فى الجولة الأولى.
وأما ضياء رشوان، فهو يأتى من قلب مؤسسة بحثية وطيدة الأركان. أهم ما يميزه استقلال الرأى ورفض الانسياق وراء الأفكار والآراء المصنوعة فى دوائر الحكم وأقسام الشرطة. وهو يمثل بالنسبة لجيل كامل نصاعة الفكر، وحرية الرأى، والقدرة على الحلم والأمل فى المستقبل. ولم تفلح كل الاتهامات التى ألصقت به لتلويث صفحته واحتسابه من الجماعات لمجرد أنه تعمق فى دراستها وأنصفها فى كتاباته بما لها وما عليها.
لقد أجريت الانتخابات. وتوفرت لها ضمانات النزاهة من الناحية الإجرائية.. واختارت الأغلبية من اقتنعت بأنه الأفضل فى الدفاع عن مصالحها، أو ربما الأقدر من الناحية العملية والبرجماتية على جلب المنافع المادية، والمهنية، فى ظل ظروف تتأرجح فيها حرية التعبير وسائر الحريات بين الشك واليقين. ذلك أن كل الظروف المحيطة بنا فى مصر لن تسمح لرياح التغيير أن تنطلق، ولا تشجع فردا أو فئة على الخروج من الصندوق المغلق الذى وجدت نفسها فيه.. مناخ الحرية فى مصر مملوء بالأخطار والمخاطر.
والآن، وبعد أن انتهت المعركة بفوز النقيب مكرم ليبقى الحال على ما هو عليه، فلابد من الاعتراف بأن الجماعة الصحفية، مهما ادعت أنها الأكثر إحاطة وقدرة على التعبير عن ضمير المجتمع. مازالت تفتقر إلى القدرة على الانصاف والموضوعية. وأن كبار الصحفيين ورؤساء المؤسسات وأصحاب الأقلام، لا يقدمون النموذج الأمثل فى الفصل بين انتماءاتهم الحزبية والسياسية وبين ما تقتضيه واجبات المهنة وأعرافها، من الوقوف موقف الانصاف والمساواة بين المرشحين فى مساحة النشر والتغطية الصحفية. فلا يكتفى رؤساء التحرير بملء الصفحات وتدبيج المقالات فى صحف قومية يملكها الشعب، دفاعا عن هذا وقدحا فى ذاك. بل يصبون على المعركة مياها عطنة، أوشكت فى بعض الأحيان أن تخرج المنافسة بين الزملاء عن إطارها السليم وتجعلها أشبه بما جرى فى مباراة الكرة بين مصر والجزائر.
* * *
أين يتحددد مستقبل الصحافة فى مثل هذه الانتخابات؟.. وهل تظل الانتخابات النقابية سواء كانت للنقيب أو لمجلس النقابة مجرد صراع على مقاعد تذهب وتجىء، وتحل أو لا تحل مشكلات آنية صغيرة تعترض طريق العمل الصحفى ودون أن تحرز أى تقدم فى تطوير المهنة؟.. هذه أسئلة يحق للصحفيين أن يطرحوها على أنفسهم وممثليهم فى مجالس النقابة.. فالأمر المؤكد أن الصحافة المصرية بأشكالها الراهنة فى طريقها إلى الاختفاء والذبول. وأن العالم يشهد بروز فجر جديد للصحافة، لم نتهيأ له بعد!