موروثات فى سياسة مصر الخارجية
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 16 ديسمبر 2010 - 11:20 ص
بتوقيت القاهرة
كانت الانتخابات درسا لقادة النظام الحاكم فى مصر، ودرسا لأهل البلد الناخبين كانوا أم متفرجين، هؤلاء الآخرون هم الأكثرية، وبينهم من كانوا مشاركين وضاقت بهم سبل المشاركة فتحولوا إلى متفرجين، هؤلاء المتفرجون هم أنفسهم الذين تضيق بهم الآن سبل الفرجة أو صاروا يملون منها، غير معروف تماما إلى ماذا يتحولون؟ ولكن حتما سيتحولون.
بالانتخابات وما جرى فيها وما أسفرت عنه وبأحداثها العالمية، وبعاصفة نشر موقع الويكيليكس لآلاف الوثائق الدبلوماسية الأمريكية، دخلت مصر دائرة حرجة اجتمع فيها عنصران، عنصر السلوك الداخلى للنظام فى مصر، وهو السلوك الذى يعكس بوضوح فلسفة الحكم فى مصر ونظرته إلى الشعب وإلى نفسه وإلى العصر الذى يعيش فيه.. كان سلوك الحزب الحاكم فى الشأن الداخلى محيطا لأنصار التغيير وكاشفا عن نظرة متعالية إلى قيم هذا العصر وأفكاره وعلومه وواضعا الأمن الداخلى فى اهتماماته أسبق على التحضر والتقدم.
يأتى الشأن الخارجى عنصرا ثانيا فى الدائرة الحرجة التى تنحشر فيها مصر الآن.
نعرف ويعرف كثيرون فى الغرب وفى إسرائيل أن السياسة الخارجية المصرية الراهنة تقوم على ثلاثة أركان، يكاد صانع السياسة المصرية يضفى عليها صفة القداسة. وقع الإعلان عن الأركان الثلاثة فى عقد السبعينيات فى خضم أو أعقاب أحداث خطيرة كان مصر سببا لها وساحة. بمعنى آخر ورث القادة السياسيون الحاليون هذه الأركان ضمن ما ورثوه عن الخطاب السياسى الذى ساد فى مرحلة السبعينيات ولم يغيروا فيها شيئا. أما الأركان فهى:
أولا: أن معظم أو 99% من أوراق اللعبة فى أيدى الأمريكيين. كان الظن وقتها أن المقصود باللعبة هو قضية الشرق الأوسط إلى أن ثبت بمرور الوقت أن بعض إن لم يكن معظم توجهات مصر الخارجية هى أيضا ضمن هذه اللعبة. أعود لأذكر بمرحلة سنوات الإعداد لحرب 1973.
ولم تكن مصر قبل هذه المرحلة قد أغلقت الأبواب كافة فى وجه تطوير العلاقات مع أمريكا. بل حاولت مرارا وكانت أبرز المحاولات المفاوضات فى عهد روجرز والمباحثات السرية مع كيسنجر. خلال تلك المحاولات كانت الشروط الأمريكية قاسية وكان من بين ما اشترطت واشنطن شرط التوقف عن مقاومة الاحتلال الإسرائيلى والامتناع عن شراء السلاح السوفييتى والتوقف عن الاستعانة بمستشارين سوفييت.
نشبت الحرب وقدمت أمريكا دعما عسكريا قويا لإسرائيل واستمر كيسنجر يفرض الشروط، ويقدم وعودا مهدت لاتفاقية صلح. تعهدت بتقديم عون مادى طويل الأمد وقدمت مصر تعهدات لا تزال سارية وسلمت بأن أمريكا سيبقى من حقها أن تحتفظ بجميع أوراق اللعبة فى الشرق الأوسط وفى بعض خياراتنا الداخلية والخارجية.
تغيرت أمور كثيرة منذ ذلك الحين. سقط نظام القطبين وكاد يتحقق حلم «أمريكا القطب الأوحد». ولكن لم يتحقق. اختفى القطب السوفييتى وفى أعقاب اختفائه بدأ انحدار القطب الأمريكى وصعود قوى أخرى كثيرة. وتقلص نصيب أمريكا من أوراق اللعبة فى أقاليم عديدة باستثناء الشرق الأوسط حيث رفضت أمريكا الاعتراف لأى قوة أخرى صاعدة بحق فى المشاركة فى تسيير الإقليم. ورفضت إسرائيل أن تفوض قوة أخرى لتلعب فى الإقليم. وللحق كانت كل من إسرائيل ومصر وفية لالتزاماتها لأمريكا، إذ قاومتا بوسائل متعددة ومتباينة محاولات دول أجنبية النفاذ إلى دائرة الصراع العربى ــ الإسرائيلى.
تغيرت أمور كثيرة، وبقيت سياسة مصر الخارجية محكومة بقيد الارتباط بالخطوط الرئيسية للسياسة الأمريكية. لم يؤثر فى هذا القيد أن العالم تغير ولم تعد توازنات القوة كما كانت عليه فى عصر القطبين. ولا يخفى أن العدد الأكبر من الدول صار يتعامل مع الولايات المتحدة منذ التسعينيات على أساس أن حلم أمريكا أن تصبح القطب الأوحد لم يتحقق. نحن وعدد من الدول العربية رفضنا التعامل مع أمريكا والعالم على هذا الأساس فاحتفظنا بنظام القطب الواحد حصريا للشرق الأوسط، وأخضعنا جانبا كبيرا من حركتنا الدولية لإرادة هذا القطب الذى تخيلناه «أوحد».
صحيح أن الولايات المتحدة مازالت الأقوى، ولكنها ليست الأقوى على الإطلاق أو الأقوى بلا قيود أو حدود. ولما كان تمسكنا بأن نعاملها كقطب أوحد قد أضر بمكانة مصر الدولية والإقليمية كان يجب النظر فى تغيير هذا الفهم القاصر للعالم ووضع أسس سياسة خارجية تستعيد لمصر بعض مكانتها وسمعتها كدولة تدير سياستها باستقلالية.
ثانيا: ورث النظام الحاكم كذلك شعارا تحول مع الوقت والممارسة فصار ركنا من أركان السياسة الخارجية المصرية. أما الشعار فكان «حرب 1973 آخر الحروب». الخطأ والخطر ليسا فى الشعار بقدر ما هما فى استغلاله أو سوء استخدامه. ففى الوقت الذى يحق فيه لإسرائيل فى ظل هذا الشعار أن تتدخل بكل حرية وبكل أساليب التدخل حتى العسكرية فى مناطق تقع ضمن دائرة الأمن القومى المصرى مثل العراق ولبنان وغزة وسوريا ومثل السودان وإثيوبيا ودول حوض النيل، لا يحق لمصر، فى ظل الشعار نفسه، أن تتحالف مع دول غير حليفة لإسرائيل. بل أكاد أصدق ما يتردد على ألسنة معلقين أجانب من أن السنوات الأخيرة منذ رفعت مصر وإسرائيل هذا الشعار شهدت حلول النفوذ الإسرائيلى محل النفوذ حيثما انحسر.
وبسبب كثرة ترديد هذا الشعار تكونت قناعة لدى إعلاميين ومسئولين عديدين بأنه لا يجوز أن يصدر من مصر ما يوحى بنية للتقارب مع إيران أو إصلاح العلاقة مع سوريا تفاديا لإثارة شكوك إسرائيل فى التزامنا الشعار.. وفى وقت من الأوقات ساد الإحساس بتوجس بعض الإعلاميين من الإشادة بإنجازات حكومة أردوجان فى تركيا وبخاصة موقفها من العدوان الإسرائيلى على غزة وقافلة الحرية. وقد علق صحفى أجنبى على ظاهرة التوجس الإعلامى والدبلوماسى المصرى بأنه يكاد يعكس حالة خوف مصرى شديد من إسرائيل الشريك فى السلام لم تكن قائمة قبل حرب 1973 وخلالها.
لا أجد وصفا لحال السياسة الخارجية الإسرائيلية تجاه بعض الدول العربية ومصر بخاصة أكثر انطباقا من الوصف الذى يطلق على الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية. يصفون الاحتلال بأنه احتلال «خمس نجوم». إسرائيل تدخل المدن الفلسطينية وتخرج منها وقتما تختار وفى حماية الأمن الفلسطينى ورضاء السلطة الفلسطينية.
وإسرائيل تتدخل فى الشئون العربية وتعتدى عسكريا وتؤلب الإعلام العالمى على العرب والمسلمين ولا تجد من ينهرها أو يؤلب عليها شعبها بل على العكس تقيم حكومات عربية معها علاقات خاصة، وتراعى حساسياتها وتتفهم قلقها الأمنى وتستجيب لطلباتها وتقف معها ضد جميع أشكال المقاومة: هى فعلا علاقات خمس نجوم تتمنى دول عديدة ناهضة مثل الصين والبرازيل أن تنعم بمثلها مع مصر وغيرها من الدول العربية.
ثالثا: ورثنا كذلك أفكار «الاستثنائية المصرية». ورثنا عبارتى شعب عمره سبعة آلاف سنة وحضارتنا فوق الحضارات. توهمنا أن حضارة السبعة آلاف سنة يمكن أن تلعب دور القوة الرادعة فى مواجهة الغير والرصيد الأعظم فى سياستنا الخارجية. ورثنا الوهم بأن تاريخنا يحمينا من أعدائنا ويعوض خسائر الجغرافيا فى النقص المتتالى فى الأرض الزراعية وتدهور البيئة والعجز فى المياه وصعوبات التعامل مع سيناء أرضا وشعبا واتفاق سلام، ورثنا من سياسة مصر الخارجية فى عقد السبعينيات ألا نفع يرجى من العرب ولن نبذل فيهم أو معهم جهدا دبلوماسيا أو اقتصاديا فى أفريقيا باعتبار أن مستقبل مصر وأمنها مرهونان لشمال متقدم وليس لجنوب متخلف.
لا يعنى التفكير فى ضرورة إعادة النظر فى تطبيقات هذه الموروثات رفض شعار أن لا حرب بعد حرب 1973، ولا يعنى التفكير فى أهمية تطوير سياستنا الخارجية كما طورت دول عديدة فى الشرق والغرب سياساتها الدعوة إلى شن حرب ضد إسرائيل. المطلوب الآن استعادة ثقة العرب والأفارقة وشعوب الدول الصاعدة فى قدرتنا على تطوير موروثاتنا السياسية والانضمام إلى ركب الناهضين.