كيف تحقق استراتيجية مكافحة الفساد أهدافها؟
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 16 ديسمبر 2014 - 9:15 ص
بتوقيت القاهرة
تابعت ما نقلته وسائل الإعلام الأسبوع الماضى عن إطلاق استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد وأسعدنى اهتمام الدولة بهذا الموضوع المهم وحرصها على أن تدفع به إلى مقدمة أولوياتها. ولكن حينما تأملت فى التفاصيل والتصريحات المنشورة، ساورنى القلق من أن يكون وراء الاستراتيجية حماس شديد ونوايا صادقة، ولكن دون أن تصاحبها رؤية واقعية لكيفية تحقيق ذلك ولا استعداد للتعامل مع الأسباب الحقيقية للفساد.
أول ما يثير القلق هو أن الاستراتيجية المعلن عنها تعيد استحواذ الدولة وأجهزتها على ملف مكافحة الفساد وتستبعد المجتمع المدنى والأكاديمى والإعلامى من المشاركة برغم المحاولات التى جرت فى السنوات الأخيرة لتوسيع نطاق هذه المشاركة (والتى بدأها بالمناسبة د. أحمد درويش من عشر سنوات وهو وزير للتنمية الإدارية ولكن تجاهلتها الدولة). فإطلاق الاستراتيجية الجديدة جرى بمناسبة احتفال هيئة الرقابة الإدارية بمرور خمسين عاما على تأسيسها، واللجنة التنسيقية لمكافحة الإرهاب تكاد تكون مشكلة بالكامل من موظفين بالدولة، والاستراتيجية برنامج عمل حكومى ولا تتضمن مشاركة غير رسمية. والنتيجة هى قيام الأجهزة الرسمية بتأميم الملف مرة أخرى باعتباره لا يخص سواها. وهذا أسلوب خاطئ لأن مكافحة الفساد يجب أن تكون هدفا قوميا يشترك فيه المجتمع بكل تكويناته ومؤسساته بدلا من أن يظل حكرا على أجهزة الدولة وحدها، وهو ما تؤكده اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتى تعتبر المرجع الدولى فى هذا الموضوع.
من جهة أخرى فإن إطلاق استراتيجية وطنية كان يجب أن تسبقه الإجابة على عدة أسئلة مهمة لا تزال تشغل المجتمع المصرى بعدما يقرب من أربع سنوات على الثورة: ما الذى جعل الفساد يتفاقم ويستشرى إلى هذا الحد؟ ولماذا عجزت الأجهزة الرقابية عن التصدى له من قبل، هل بسبب ضعف الإمكانات، أم قصور التشريع، أم غياب الإرادة السياسية؟ ولماذا لم تسفر تحقيقات ومحاكمات السنوات الماضية إلا عن ملاحقة آلاف المسئولين والموظفين الحكوميين دون جدوى وتعريضهم للحبس والإهانة والمنع من السفر والتصرف فى الأموال دون دلائل كافية، بينما بعض من ارتكبوا فسادا حقيقيا لم تقترب منهم يد العدالة حتى الآن؟ هذه الأسئلة وكثير غيرها بحاجة إلى إجابات واضحة قبل الشروع فى تطبيق استراتيجية وطنية جديدة حتى يستريح الرأى العام لمعرفة الحقيقة ويطمئن إلى أن هذه الاستراتيجية لن تكرر الأخطاء ذاتها أو تتعرض للضغوط ذاتها التى وأدت جهودا سابقة. الحديث عن مكافحة الفساد فى المستقبل دون فهم ما حدث فى الماضى لن يؤدى إلى نتائج أفضل.
كذلك فإن المنشور بشأن هذه الاستراتيجية الوطنية يتناول إجراءات معتادة سبق الحديث عنها كثيرا: تطوير الخدمات الحكومية، والحد من التعامل مع الموظفين، ووقف التعدى على الأراضى الزراعية، والمزيد من الشفافية، وتشديد العقوبات. هذه كلها أشياء بديهية ولا تمثل خروجا عن الأساليب القديمة ولا تغييرا جذريا يتناسب مع إطلاق استراتيجية جديدة. إذا كانت هناك نية فى تحقيق نتائج مختلفة فلابد من البدء بمراجعة الإطار المؤسسى لمكافحة الفساد. فى مصر ما لا يقل عن سبعة أجهزة رسمية كلها معنية بجانب أو أكثر من الموضوع: هيئة الرقابة الإدارية، والجهاز المركزى للمحاسبات، ونيابة الأموال العامة، ونيابة الشئون المالية، وجهاز الكسب غير المشروع، ووحدة مكافحة غسل الأموال، واللجنة التنسيقية لمكافحة الفساد. وبجانب هذه الجهات هناك أيضا أجهزة حماية أراضى الدولة وحماية المنافسة والمستهلك والأسعار والمبانى والصحة والأسواق المالية وغيرها. هذه البنية المعقدة بحاجة لإعادة نظر وتقييم وتحديد لدور واختصاص كل منها ومدى تحقيقه للأهداف المنوطة به حتى لا يجد الموظف أو المسئول الحكومى نفسه محاطا بشبكة هائلة من الجهات الرقابية كل منها يتدخل فى كل شىء ولا نتيجة تتحقق فى النهاية سوى شل الأجهزة الرسمية وارتعاش الأيدى بينما الفساد الحقيقى والكبير مستمر لأنه ــ مثل الميكروب الذى يتحور أمام الأدوية الجديدة ــ يجد وسيلة للتأقلم وللإفلات من ثنايا هذا النظام المعقد.
وأخيرا يلزم تحديد ما الذى نريده بالضبط. هل هو الاستمرار فى متابعة آلاف الملفات المفتوحة دون جدوى أم طى صفحة الماضى بالنسبة للتجاوزات البسيطة والاستمرار فى متابعة الجرائم الكبرى فقط؟ هل هو مكافحة كل أنواع الفساد مرة واحدة أم البدء بالفساد الكبير ثم الانتقال تدريجيا للفساد الأصغر؟ هل هو مجرد ملاحقة الماضى أم وضع النظم والآليات الكفيلة بالوقاية فى المستقبل؟
وفى كل الأحوال فإن الموضوع لا يخص الدولة وحدها ولا الأجهزة الرقابية، بل يخص المجتمع بأسره ويجب مناقشته وتحديد أولوياته بالتشاور والمشاركة لكى يكتسب مصداقية لدى الناس ويعطى الأمل فى أن تتحقق فى المستقبل نتائج مختلفة.