القدس آخر أوراق التوت
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 16 ديسمبر 2017 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
القانون الدولى هو المنظم للمجتمع الدولى المتحضر، ولذلك فإن التنديد المستمر بانتهاكه والإصرار على ضرورة احترامه واجبان، لا يمكن التهاون فيهما. أريق حبر كثير فى الأيام العشرة الأخيرة بشأن خروج الرئيس الأمريكى على قرارات كل من الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن وعلى قواعد القانون الدولى باعترافه بمدينة القدس عاصمة لإسرائيل. ومع ذلك فإن لإعلان الرئيس الأمريكى وجها آخر، حريٌّ بنا أن نتناوله. إن هذا الإعلان يكشف عن استهتار مطلق بالمواقف العربية ورغبة فى سقى الهزيمة كاملةً للعرب.
منذ قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نوفمبر سنة 1947، اختُصَت القدس بوضع خاص، وتكرر ذكر ذلك فى قرارات عدّة صادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن، بل إن إعلان المبادئ الناتج عن اتفاق أوسلو والموقع فى واشنطن فى نوفمبر سنة 1993 نصّ على القدس بالذات كواحد من الموضوعات الخمسة بشأن التسوية النهائية التى ستتفاوض عليها الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية. المعنى هنا أن للقدس وضعا خاصا بخلاف كل الأراضى الفلسطينية والعربية الأخرى.
***
البعض قد يصرّ على أن الوضع الخاص للقدس يرجع للمقدسات الإسلامية والمسيحية الموجودة فيها. وقد يتمسك هذا البعض بتديين مسألة القدس ووضعها الخاص. ولكن الحقيقة هى أن القدس صارت رمزا لما تبقى من إرادة على رفض الهزيمة. المسألة حتى أكبر من المقدسات الموجودة فى القدس. هل للتردد على المقدسات نفس القيمة لدى من يحتفظ بكرامته، أو بعض منها، ولدى من فقدها كاملةً بهزيمته وباعترافه بهذه الهزيمة؟ تمسك الشعب الفلسطينى بالقدس عاصمة لدولته المرتجاة يرجع إلى أنها قلب تاريخه ووعيه بنفسه. أما تمسك العرب، فهو ولا شك يرجع فى جانب منه لوجود المقدسات فيها، ولكن السؤال يثور: ألن يتمسك العرب ببغداد أو دمشق، أو بيروت، أو القاهرة، أو تونس، أو الرباط، على الرغم من عدم وجود مقدسات فى أى منها؟
لقد حارب الجنود المصريون ببسالة وكفاءة فى أكتوبر سنة 1973 فأزاحوا بشجاعتهم قوات الاحتلال الإسرائيلية عن سيناء وغسلوا جانبا من عار يونيو سنة 1967. المقاومة اللبنانية أخرجت القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان فى سنة 2000. على الرغم مما فى ذلك من مرارة، فلا بدّ من الاعتراف بأنه بخلاف هذين المثالين، كانت أوجه النصر قليلةً. اللوم فى ذلك ليس على الشعوب العربية ولكن على أنظمة الحكم فى بلدانها.
بادعاء العمل على تحرير فلسطين، ثم بالسعى إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية وإلى إنصاف الشعب الفلسطينى، ومن بعد ذلك من أجل التخلص من آثار العدوان الإسرائيلى واحتلال أراضى ثلاث دول عربية، أسكتت أنظمة الحكم العربية شعوبها وزعمت تعبئة كل الجهود وضرورة إخراس كل «نشاز» حتى تحقق أهدافها الجليلة، فماذا كانت النتيجة؟ القبول بالقدس عاصمة لإسرائيل، سواء كان هذا القبول صريحا أو ضمنيا، سيكون إقرارا من أنظمة الحكم بأن النتيجة هى الهزيمة فى مجمل الصراع العربى الإسرائيلى فى المائة سنة الأخيرة، وسيصير موافقةً على أن تكون العلاقة بين اسرائيل والعرب هى علاقة المنتصر بالمهزوم.
هذه النتيجة ستكون محصلةً لمقاربات بائسة للقتال وللتفاوض وقبلهما وبعدهما للحكم ذاته. ليس أبلغ على الفشل فى الحكم ولا أتعس من الفارق الحضارى الهائل بين إسرائيل وبيننا نحن العرب. فى مقاله الأسبوعى فى «الأهرام» منذ عدة أيام أورد الأستاذ فتحى محمود مقارنة لأعداد العلماء، والأبحاث المنشورة، والكتب الصادرة، وبراءات الاختراع المسجلة فى إسرائيل من جانب، وفى جميع الدول العربية مجتمعةً، من جانب آخر. التفاوت مذهل يتعدّى كل ما يمكن تصوره، وهو شكل من أشكال الهزيمة بل لعله السبب الأصلى فى الهزيمة.
***
الدخول فى عملية تفاوض أو حتى بحث فى أى مقترحات تصدر عن الرئيس الأمريكى وفريقه المعاون بشأن ما يشاع على أنه «صفقة القرن»، وكأنما نحن بصدد عملية تجارية فيها بيع وشراء ومراوغة فى السعر، هو قبول ضمنى بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل وإقرار بالهزيمة الكاملة. إن معظم العرب، بما فى ذلك، وربما قبلهم الشعب الفلسطينى، أصبحوا يقبلون بإسرائيل، ولكن القبول بها شيء والرضوخ لها شيء آخر.
قد يقول قائل إن رفض إعلان الرئيس الأمريكى يعنى إنهاء لمحاولات تسوية القضية الفلسطينية والصراع العربى الإسرائيلى تسوية سلمية. هذا القول غير صحيح لسببين. هو غير صحيح أولا: لأنه يستند إلى فرضية فاسدة، ولكنها وللأسف صارت مستبطنة لدينا، ألا وهى أن «تسعة وتسعين فى المائة من أوراق اللعبة فى يد أمريكا»، بمعنى أنه لا تفاوض ولا تسوية إلا عن طريقها وبرضاها. أول ما يقال تعليقا على ذلك هو أن بديهيات التفاوض هى أن تعظِّم من قيمة ما معك من ورق وأن تدخل فى روع خصمك بأنه أقوى مما هو عليه، من جانب، وأن تشكك نفس هذا الخصم فى قيمة الورق الذى يمسك هو به، من جانب آخر. مدهشٌ أن تبدأ التفاوض وأنت معترف بأنه ليس لديك ما تفاوض به وبأنك مجردٌ من كل قوة! خطأ ثان هو أنه لم يكن صحيحا من قبل، وليس صحيحا الآن، أن تسعة وتسعين فى المائة من الأوراق فى يد أمريكا، أولا لأنه من شبه المستحيل أن توزع الأوراق، أى أوراق، بهذا الشكل، ولنا أمثلة فى مواجهات الولايات المتحدة مع فيتنام وكوبا وإيران بل وفى علاقاتها مع حلفائها الأوروبيين أنفسهم. ثم إن أوراقا بقيت فى يد إسرائيل نفسها، أقلها قوتها العسكرية واحتلالها للأرض، وهى، على عكسنا، لم تستهن بأوراقها ولا سلّمت بأن حلّ الصراع فى يد أمريكا وحدها على الرغم من رعاية هذه الأخيرة لها. القول بأن تسعة وتسعين فى المائة من الأوراق فى يد أمريكا خطأ فادح فى التشخيص لأن فيه جهلا بأن الولايات المتحدة لا تستطيع فرض كل شيء على إسرائيل نفسها لأسباب عديدة ليس هذا المقال موضوعها.
السبب الثانى: لعدم صحة القول بأن رفض إعلان الرئيس الأمريكى هو إنهاء لمحاولات تسوية الصراع سلميا هو أن العالم أجمع، وباستثناءات قليلة جدا، يرفض الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل سواء كان ذلك حبا فى العرب وفى الحق، أو تخوفا من تبعاته. أوروبا مثلا، وهى المتاخمة للعالم العربى، لا تريد دفع ثمن الاعتراف، بعد أن شاركت فى تحمل تبعات الصراع فى سوريا. بل إن أوروبا لا بدّ مهتمة وبجدية بتسوية مقبولة للقضية الفلسطينية برمتها بسبب موقعها الجغرافى وتأثرها بما يمكن أن يترتب على الصراع إن استمر بغير حلّ.
***
أين يمكن أن يجرى التفاوض من أجل التسوية؟ فى الأمم المتحدة وفى الإطار الذى رسمته لها قراراتها. أفلن ترضى الولايات المتحدة وإسرائيل بذلك؟ فليكن، ولتتحمل إسرائيل نتائج الاحتلال على الأرض ثم أمام المجتمع الدولى. هل يعنى ذلك استمرار معاناة الشعب الفلسطيني؟ هو يعانى بالفعل وستستديم معاناته إن قبل إعلان الرئيس الأمريكى ومن بعده «الصفقة».
هل يمكن أن تتردد بعض الأنظمة العربية الصديقة له فى إحراج الرئيس الأمريكي؟ الردّ هو بتساؤل آخر: أليس من المنطق أن تكون غريزة البقاء، بقاء الأنظمة، أقوى من الحرص على صداقة الرئيس الأمريكى الحالى؟
على الأنظمة العربية أن ترفض تماما وعلانيةً اعتراف الرئيس الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل. إن هذا من شأنه أن يرفع من قيمتها لدى شعوبها ولدى العالم أجمع بما فى ذلك فى الولايات المتحدة. النظام السياسى الأمريكى لا بدّ سيدرك أن الرئيس الحالى وبمواقفه ينتقص من قيمة الولايات المتحدة ويبعدها عن تصدر الجهود الرامية إلى تحقيق السلام بل وعن نفس مواقف حلفائها الأوروبيين. رفض إعلان الرئيس الأمريكى ومجرد التباحث حول الصفقة فيه مكسب للأنظمة العربية وليس خسارة بأى شكل.
ومن بعد، سيكون أفضل ما تفعله الأنظمة فى حق نفسها أن تكف عن كبت الشعوب وأن تتركها تنمى قدراتها وتنظم نفسها وتردم الفجوة الحضارية التى تفصلها عمن يسلبونها حقوقها منذ عشرات السنين.
الموقف من القدس ورقة التوت الأخيرة، إن سقطت ستنكشف كل العورات.