تجريد المدنيين من ملابسهم.. همجية إسرائيلية
منى عباس فضل
آخر تحديث:
السبت 16 ديسمبر 2023 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
إنها الجريمة الأكثر وقعا وبربرية، الأشد عنفا وحساسية وخطورة من الوجهة الأخلاقية والقانونية فى تأثيراتها وتداعياتها وبما تلحقه من أضرار مفرطة وجسيمة بضحايا الاحتلال الصهيونى بدنيا ونفسيا وللمحيط الذى ينتمون إليه.
فى السياق نتحدث عن لقطات وصور مشينة نشرها الاحتلال فى غزة، يظهر فيها عدد كبير من الفلسطينيين الذين اعتقلهم جيش العدو فى مناطق متفرقة تحت تهديد السلاح، واقتادهم إلى مراكز اعتقال فى ظروف غامضة مخالفة للقانون الدولى وهم عراة فى طقس بارد بعد تفتيشهم وإذلالهم بحجة التحقق من نشاطهم وانتمائهم إلى «المقاومة حماس».
ثمة صور ومقاطع مصورة أخرى يظهر فيها المحتجزون مجردين من أغلب ملابسهم جالسين فى الشارع بملابسهم الداخلية ويحاولون تغطية صدورهم بأيديهم من البرد وحولهم جنود إسرائيليون، بينما تكدس آخرون فى الشاحنات مكبلين ومعصوبى الأعين قبل اقتيادهم إلى جهة مجهولة ومن بينهم سيدة جردت من حجابها، وصور أخرى لأسرى عراة على الأرض مكبلة أياديهم ومحاصرين من الجنود أمام حفرة كبيرة فى أحد المقالع. ترى ما الرسائل التى استدعت إسرائيل إلى توظيف تعبيرات هذه المشاهد وبهذا الأسلوب؟
• • •
فى هذا الصدد، كتب نائب رئيس البلدية الإسرائيلية فى القدس «أرييه كينغ» تغريدة على منصة إكس «يجب على إسرائيل أن تغطى هؤلاء النازيين بالأرض التى تحيط بهم، الآن يجب تغطيتهم (دفنهم أحياء) حتى لا يواجههم أى إنسان إلى الأبد» مضيفا «لو أتيح لى اتخاذ القرار، لجلبت أربع جرافات ضخمة (D9)، وأمرت بتغطية كل هذه المئات من النمل، وهم لا يزالون على قيد الحياة، إنهم ليسوا بشرا وليسوا حيوانات بشرية، إنهم دون البشر، وهذه هى الطريقة التى يجب معاملتهم بها»؛ أما «دانيال هارغارى» المتحدث باسم جيش العدو علق «بأن العديد من مسلحى حماس استسلموا للجنود الإسرائيليين فى غزة، وأن جيشهم استجوب مئات المشتبه بهم فى أنشطة إرهابية، واستسلم الكثير منهم فى اليوم الأخير».
على النقيض ذكر موقع «المرصد الأورومتوسطى لحقوق الإنسان» بأنه تلقى إفادات «بأن إسرائيل اعتقلت عشرات المدنيين الفلسطينيين بعد التنكيل الشديد بهم وتعريتهم كليا من ملابسهم على إثر حصارهم منذ أيام فى مركزين للإيواء تابعين لوكالة الغوث (أونروا) من بينهم أطباء وأكاديميون وصحفيون ومسنون».
إن ارتكاب فعل تعرية المعتقلين الفلسطينيين ليس صدفة ولا وليد لحظة الثأر والانتقام؛ هو جزء من حرب وجودية واستعراضية معززة باستخدام تقنية الصور وحبك مؤامرات الحرب الإجرامية وتنفيذها والتى بالمناسبة يتعرف العالم من خلالها على واقع الكيان المحتل المفرط فى انتهاكه للأخلاق وللقانون الدولى والإنسانى. هى مشاهد خليط ومتداخلة تكتسب معانيها ودلالتها عبر ارتكازها على مرجعية سلوك منحرف لهذا الكيان، إذ ليس بوسعه كسب نتائج معركة لم يحقق فيها حتى الآن إلا فشل الوصول إلى المقاومة الفلسطينية والإجهاز عليها، والمزيد من التدمير وارتكاب المجازر بقتل المدنيات والمدنيين الأبرياء وإذلالهم بهذه الصور التى فى حقيقتها مضللة ومخادعة متسقة مع خطط العدو وعقيدته العنصرية التى نمت عليها دولة الاحتلال بشكل منظم وممنهج؛ فما قام به جيشهم جريمة أخلاقية وامتهان صارخ لكرامة الإنسانية ومخالفة صريحة لاتفاقية جنيف لعام 1949 والقانون الدولى ولمنظومة حقوق الإنسان.
صناعة الجريمة المنظمة التى ينفذها الاحتلال، لا تزال تواصل اتساعها وانتشارها حيث يمارس فيها إعلام العدو سلوكا منحرفا مخالفا للمعايير الإنسانية والأعراف الدولية؛ ومفهوم الانحراف فى حقيقة ممارسات الاحتلال أوسع وأكثر شمولا من مفهوم الجريمة ذاتها التى وصل أقصى مداها فى الإبادة الجماعية والتطهير العرقى بقتل الأطفال والنساء، وما نشاهده من إذلال وتحقير للمدنيين ما هو إلا محصلة لغياب النظام القيمى والقانونى فى مجتمع الكيان الصهيونى العنصرى، يضاف إليه «الفشل الأخلاقى» لمجلس الأمن فى استخدام «الفيتو» ضد وقف إطلاق النار فى غزة.
• • •
تسعى إسرائيل فى استمرار بث مشاهد وصور إذلال المعتقلين؛ إلى تضليل الوعى وتزييفه وهى تعمل ببعدين؛ أولهما؛ بث رسائل تدعى فيها انتصارا وبأن هناك حالة «استسلام للمقاومة» تهدف من ورائها إلى كسر معنويات الإنسان الفلسطينى فى مقابل رفع معنويات المجتمع الإسرائيلى الذى اهتزت نظرته وتخلخلت تجاه قيادته السياسية وقواته العسكرية بعد «طوفان الأقصى»، فضلا عن التغلب على الشعور بالفشل خصوصا مع استمرار وجود الأسرى بقبضة «المقاومة»، وعليه فالهدف الأساسى من هذا الاستعراض هو ترميم الحالة المضطربة لجيش العدو وهو ينفذ هجومه البرى والجوى على غزة وأهلها.
أما البعد الثانى فيكمن فى تعزيز الآثار النفسية التى لا تقتصر على تأثير عنف الصور التى نشاهدها ويعاد بثها وتكرارها عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى فقط، بل إلى إطار الشعور الجمعى الذى نتلقاه كعرب ومسلمين عبر المشاهد المؤلمة بما يشوبها من شعور بالمهانة والغضب، فهى بحد ذاتها ــ أى صور المحتجزين الفلسطينيين ــ لا تفصح فى حقيقتها عن خبر فقط ولا تصف الحدث بموضوعية خصوصا «وأن إسرائيل تمارس التعتيم على أى معلومات بشأن عدد المعتقلين الفلسطينيين وأسمائهم وأماكن اعتقالهم»؛ بقدر ما تحتويه من مضامين ودلالات فى نقل موقف عنصرى متطرف يتجلى فى تصريحات المسئولين الإسرائيليين التى دافع فيها «مارك ريجيف»، مستشار بنيامين نتنياهو، عن تجريد الجيش الإسرائيلى ملابس نازحين فى غزة وتصويرهم قائلا: «هنا الشرق الأوسط، والجو حار للغاية»، ورد باستخفاف على مراسل «سكاى نيوز» البريطانية «أولا وقبل كل شىء، تذكر أننا هنا فى الشرق الأوسط، والطقس حار جدا، قد لا يكون من الجيد أن يطلب منك خلع قميصك، خاصة فى الأيام المشمسة، ولكنها ليست نهاية العالم»، وحين سأله عما إذا كانوا انتهكوا اتفاقية جنيف، رد: «إن الصور ليست مادة رسمية، ومن الضرورى النظر فى طريقة انتشار الفيديو، ما يعنى أنه لا يمكن تحميل إسرائيل المسئولية فى هذا الصدد» وذكر بأنه غير مطلع على القانون الدولى بهذا المستوى.
إلى هنا وبرغم فداحة الاستباحة التى ينشرها الإعلام الإسرائيلى تقصدا ولأسباب معروفة، والإنكار والتشكيك بعدم قانونيتها، فهى ــ أى إسرائيل ــ لا تجرؤ على الدفاع عن جريمتها وتسويغها وتحاول التعبير عنها بأسلوب استخفافى والتفافى تحاشيا للمساءلة القانونية، إذ ليس لديها أى مسوغات أخلاقية سياسية وعسكرية لهذا الفعل المشين، حتى والاحتلال يختصر الإجابة عن أسئلة الصحفيين التى تواجههم بخصوص الأسرى المدنيين، فقط بمسألة الانتماء إلى «حماس» التى ألصقوا بها تهمة «الإرهاب» وابتكروا فكرة تحميلها مسئولية الدمار والمجازر التى ترتكب باستخدام المدنيين كدروع بشرية.
• • •
ختاما، يبقى إن للصور دلالات تعبيرية عميقة، ليس أقلها حالة الفشل العسكرى فى تحقيق أهداف العملية البرية، خصوصا والعالم يضغط باتجاه إيقاف الحرب والمساءلة القانونية بتهمة ارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية، فضلا عن محاولة التنصل من المسئولية القانونية والأخلاقية من الحرب ومن مشاهد تجريد المعتقلين من ملابسهم، وهم الذين طالما كرروا بأن جيشهم من أكثر جيوش العالم احترافية والتزاما بالقانون الدولى فيما لايزال يرتكب المجازر التى راح ضحيتها منذ 7 أكتوبر أكثر من «18 ألفا و700 شهيد» و«48 ألفا و780 جريحا» ناهينا عن الدمار الهائل للقطاع. يحاولون إقناع العالم بأنها صور عادية وتقنية لا علاقة لها «بجريمة الحرب»، القصد منها «التفتيش عن الإرهاب» وإن القانون الدولى يسمح بتنفيذها كأهداف عسكرية، والتخفيف من وقع آثارها وتداعياتها النفسية. إنها رسالة مضللة لواقع إبادة جماعية وحرب تشن من دولة كيان عنصرى على الشعب الفلسطينى بحجة القضاء على «حماس» وبالتالى كل شىء فيها مستباح!