من ينقذ مصر من نفسها
عزة كامل
آخر تحديث:
الأحد 17 يناير 2010 - 10:34 ص
بتوقيت القاهرة
أربعة عشرة عاما مضت ومازالت أتذكر الرعب فى عين ابنتى التى لم تكمل عامها الثامن، عندما استقبلتها عند عودتها من المدرسة. كانت ترتجف وتبكى بحرقة مثل حرقة امرأة ناضجة، ارتمت فى حضنى، حاولت تهدئتها، سألتها ماذا بك يا صغيرتى؟ بعد لحظات أجابت: «ماما هى طنط جونا هتروح النار»، قلت لها وقلبى يقفز من بين ضلوعى ودقاته تتسارع من قال هذا الكلام؟ قالت والخوف يعتريها: «معلمة العربى أخبرتنا فى الحصة أن المسحيين هيرحوا النار»... ارتبكت، حاولت أن أجمع شتات فكرى. لا يا صغيرتى لن تذهب إلى النار سوف أذهب معك غدا لتتأكدى إن هذا الكلام غير صحيح، اتصلت بصديقتى ابنة طنط «جونا» وحكيت لها القصة، واتخذت قرارى. فى اليوم التالى ذهبت إلى المدرسة أنا وزوجى وفتحنا تحقيقا مع إدارة المدرسة حول ما فعلته المعلمة وأردنا تصعيد المساءلة للوزارة، لكن إدارة المدرسة ترجتنا أن نعطيها فرصة للتصرف مع المعلمة. طلبت من مديرة المدرسة مقابلة المعلمة لكى أستفسر منها عما حدث. وكانت المفاجأة أنها شابة عمرها أربعة وعشرين عاما، انتهى النقاش بأن سألتنى المعلمة الشابة: المفروض أنك مسلمة مثلى، لماذا تدافعين عنهم (تقصد المسيحيين)؟
إلى الآن أشعر بذنب كبير لأننى لم أفجر هذه الواقعة كقضية عامة تهدد المواطنة المصرية التى يتم تحطيمها وزرع الكراهية والتعصب بدلا منها فى المدارس التى تشكل لبنة أساسية من لبنات التربية، ومثلما تكاسلت، تكاسل غيرى منذ سنوات على أحداث جسيمة نجنى ثمارها المرة الآن، فلعل الأحداث الطائفية الأخيرة تجعلنا نتساءل ما الذى حدث لتقرير لجنة تقصى الحقائق التى شكلها مجلس الشعب فى أعقاب حرق كنيسة بالخانكة عام 1972، فى عهد الرئيس السادات؟
لقد تم حفظه ودفنه فى الأدراج، وتعاملت الدولة المصرية مع المأزق الطائفى على أنه مأزق عابر، لكن حادثة الخانكة كانت كالزلزال الذى نشر توابعه على مراحل فقد أعقب ذلك سلسلة من العنف الطائفى خرجت من نطاق ممارستها التمييزية الخجول المستترة إلى الممارسات العلنية الوقحة.
متى نجتث المشكلة من جذورها، متى نتوقف عن دفن رءوسنا فى الرمال، نتجاهل ما يحدث من تحويل مصر إلى بؤرة طائفية تنز صديداً وتأكل نيرانها اليابس والأخضر، ونحاول أن نغض البصر ونلغى التفكير الذى يظهر لنا أن الأحداث الطائفية التى حدثت فى نجع حمادى يوم «عيد الميلاد» ليست أحداثا استثنائية عابرة، بل هى مأزق يتعايش معنا بشكل دائم. فمظاهر التعصب تنمو ويشتد عودها منذ السبعينيات، تذكيها الحركة الإسلامية السلفية التى «تُديِّن» الحركة السياسية وتعمل على تصعيد المناخ الطائفى، ويغذيها تخلى الدولة عن مبدأ تكافؤ الفرص بين المسلمين والمسحيين فى الحياة السياسية والوظائف العامة والتخلى أيضا عن مبدأ المواطنة، وتسعر من نار مظاهر التفرقة والتأجج الطائفى والدينى (أهل الذمة، الأقليات) وتزيد من انتشار الاجتهادات الدينية والفتاوى التى تؤجج الشعور العدائى وعدم التسامح تجاه الأقباط، وتدفع فى اتجاه تعزيز مفهوم الدولة الإسلامية، هذا بالإضافة إلى التجاهل التام لتدريس الحقبة القبطية فى المدارس والتضييق على حرية بناء الكنائس فى كل ربوع مصر المحروسة.
أدى هذا إلى تعميق منطلقات هذه الفتنة الطائفية فى الوجدان الشعبى ويترجم ذلك من خلال الحكايات والأمثال الشعبية والنكات والأوهام عن الآخر المسيحى على شاكلة: المسيحى البخيل، المتعصب، الذى يحتكر مهنة الطب والصيدلة من أجل التحكم فى الدواء وفى أرواح وأجساد المسلمين، الذى يخطط لتنصير المسلمين والتبشير بينهم، بالإضافة إلى المواعظ والفتاوى والمحرمات، بدءا من أن المرأة المسلمة يمنع عليها كشف حجابها أمام أى فتاة أو امرأة مسيحية، مرورًا بما إذا رأيت قسيسا اقرأ آية الكرسى، انتهاء بألا تأكل طعام مسيحى؛ ولا يمنع ذلك أن يتم التعامل مع المسيحيين بمنطق انتهازى من أجل الاستفادة منهم، فلا مانع أن يتعلم أبناء المسلمين فى مدارس الراهبات لأنها تعلمهم النظام وتجعلهم متفوقين، لا مانع أن يذهبوا لأطباء مسيحيين لأنهم مجتهدون أكثر.
وقد يستهوى الحكومة أن يتحول الصراع السياسى الاجتماعى إلى صراع طائفى من الدرجة الأولى من أجل حشد شعبى مثلما حدث فى السبعينيات عندما استقوى السادات بالأيديولوجية الإسلامية فى مواجهة الشيوعيين والناصرين من أجل بناء تحالف وتأييد شعبى للتحولات السياسية والاقتصادية لنظامه الجديد، وقام بإعادة الجماعات الإسلامية إلى المشهد السياسى وزيادة سطوتهم، والتى لم يتصور السادات نفسه أن تنقلب عليه وتؤدى إلى اغتياله وانتهاء حكمه.
لقد انتهزت هذه الجماعات الفرصة التاريخية التى قدمها لهم السادات وأخذت تعزز وتقوى من فكرة التعصب للآخر الدينى والتمسك بصيغة أهل الذمة، وأن رابطة الأرض والوطن، رابطة الدم والنسب، رابطة اللون واللغة، كلها روابط جاهلية، وقد انبرى أيمن الظواهرى خلال كتابته فى إظهار النصوص المنقولة عن فقهاء المنهج السلفى التى تمنع الاستعانة بأهل الذمة «فى عمل ولا كتابة لأنه يلزم منه مفاسد»، كما أنه يتهم الإخوان المسلمين الذين يرون أن للمسيحيين الحق فى تولى كل وظائف الدولة، ما عدا منصب رئيس الدولة، فيقول : «إنهم لا يرون غضاضة فى أن يتولى رئاسة وزارة مصرى نصرانى؟ ترى ولماذا لا يكون يهوديا أليس فى مصر مواطنون يهود؟ أم أن المسألة مسألة دعاية سياسية وليس مبادئ ».. هذا التيار الذى يمثله أيمن الظواهرى أوجد ميراثا للريبة والشك بين المسلمين والأقباط تمظهر فى أزمة طائفية انعكست بشدة على الشارع المصرى، وأشعلت أوار التعصب والحرب وأضرمت النار فى الوشائج التى تربط بين المسلمين والمسيحيين باعتبارهم يتنفسون هواء واحدا ويعيشون على نفس الأرض ويواجهون نفس المصير، والأهم من ذلك كله أنهم جميعا مواطنون مصريون.
إن الحكومة المصرية يجب أن تتحمل المسئولية تجاه ما يحدث وأن تفكر فى حلول بديلة عن الحلول المسكنة المؤقتة مثل لقاءات المصالحة بين القيادات الدينية أو سجن بعض الأشخاص أو التذرع ببعض الحجج أو تلفيق التهم، فهذه الحلول لن توقف نهر الدم ولن تمحو الغضب الذى يعتمل فى النفوس ولن تمنع طوفان الطائفية. لن نجتث جذور الطائفية ولن نمنع الوتيرة المتصاعدة لأحداثها من تربتنا المصرية إلا إذا عملنا جمعيا أفراد وأحزابًا وإعلام ومفكرين وأدباء ومثقفين من أجل أن يتمتع الأقباط بالمواطنة الكاملة، وأن يتم تعديل الدستور بما يكفل المساواة الكاملة فى الحقوق والواجبات لجميع المواطنين، والتأكيد على الطبيعة المدنية للدولة بتدريس التاريخ القبطى فى المدارس، وإلغاء النص على بند الديانة فى الأوراق الرسمية، وسن قوانين موحدة لبناء دور العبادة، وفتح أبواب المعاهد الدينية أمام الطلاب المسلمين والمسيحيين للتعرف على ثقافة كل منهما ودورهما معا فى بناء هذا الوطن، وإلغاء أى مظاهر للتفرقة ضد المسيحيين فى شغل الوظائف العامة.. والأهم من ذلك كل، نشر فكر التسامح وقبول الآخر وفتح حوار واسع يقوم على مبدأ أن الجميع مواطنون متساوون فى الحقوق والواجبات وأن يتخذ من العقلانية سنده فى مواجهة طاحونة التمييز الطائفى والسلفى، وأن يكون هذا الحوار شفافا ونزيها وشجاعا يكشف عن المسكوت عنه، ويقوم على الاحترام المتبادل بين جميع الأطراف، ويتخذ من «الدين لله والوطن للجميع» شعارا له.