لنتوقف عن ممارسة القيادة السياسية المشوهة
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الخميس 17 يناير 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
لقد عُّرِّفت كلمة القيادة فى أدبيات الفكر السياسى بأنها القدرة على توليد الثقة فى أحقية وصلاح الأهداف التى ينادى بها القائد، وعلى إظهار الشجاعة لتنفيذ تلك الأهداف، وعلى جعل أتباع القائد من المطيعين والملتزمين بالأهداف. ولقد وصل الحال بالبعض إلى اعتبار القيادة كأحد الفضائل التى تغنى عالم السياسة وانشغلوا بوصف الصٍّفات الشخصية التى تجعل من القائد شخصية محبوبة وموثوقا بها ومطاعة.
فى اعتقادى أن هناك جانبا من هذا الموضوع قد أهمله الكثيرون. إنه الجانب المتعلق بامتداد تلك القيادة، أهدافا وقادة جدد وأتباعا لا ينقطعون، امتدادها فى الزَّمن. وهذا الجانب، كما سنبين لاحقا، يعتمد إلى حدّ كبير على تصُّرفات وأخلاقيات القائد.
بالنسبة لنا نحن، عرب القرنين العشرين والواحد والعشرين، هذا موضوع بالغ الأهمية، إذ أنّه كان أحد النواقص المفجعة فى حياتنا السياسية العربية طيلة المائة سنة الماضية. ذلك أن الأمة العربية لم تحظ عبر تلك السنين الطويلة بقيادات تمتّد عبر الزّمن وإنّما حظيت بشخصيات كاريزميّة محبوبة ومطاعة، مارست الرئاسة والهيمنة وحقّقت نجاحات مبهرة أحيانا، ولكنّها لم تمارس القيادة. ذلك أن القائد الناجح الحقيقى هو الذى يترك من بعد رحيله أتباعا تلامذة يؤمنون بفكره ويحملون مسئولية رسالته ويحاربون ويموتون من أجلها.
استمرار فكر ووهج الرسالة وعدم تراجع زخم النضال من أجلها عبر الزمن المستقبلى هو جزء لا يتجزّأ من مفهوم وشروط القيادة الناجحة. والقادة الذين بعد موتهم يخيّم الصّمت المطبق حول مارفعوا من شعارات وما بذلوا من جهد لحفرها فى واقع المجتمعات كانت نجاحاتهم مؤقتة وقياداتهم ناقصة. فالشعارات والأفكار العظيمة التى جاء بها رجال عظام تحتاج دوما إلى أكثر من جيل وإلى سلسلة طويلة من القادة الجدد لإيصالها إلى نهاياتها المبتغاة السَّعيدة.
•••
إن فشل الكثيرين من القادة السياسيين العرب إبّان القرن الماضى فى أن يكونوا من الذين يخرقون حاجز الزمن الحاضر إلى الزَّمن الممتد فى أفق المستقبل قد جعل السماء السياسية العربية إبّان ذلك القرن مليئة بالغيوم الكثيفة التى ولَّدت الكثير من ضوضاء الرعد ولمعان البرق، لكنَّها فشلت فى أن تنزل مطرا يجعل الأرض العربية تهتزُّ وتربو زرعا ونماء وطنيا وقوميا وحضاريا.
اليوم والوطن العربى يموج بالانتفاضات الثورية الواعدة نحتاج أن نطرح على أنفسنا السؤال المشروع: لماذا عمّت ظاهرة التشوُّه التى وصفناها سابقا فى ممارسة القيادة عبر الحياة السياسية العربية الحديثة؟ لماذا لم يستطع قادة عرب مخلصون، شهد لبعضهم القاصى والدَّانى بقوة الشخصية وعمق التأثير الجماهيرى واتساع رقعة المؤيدين فى هذا القطر أو ذاك، بل وأحيانا فى الوطن العربى كلّه، لماذا لم يستطيعوا تربية قادة جدد آخرين قادرين على حمل الراية وتجييش الجماهير إلى يوم احتفال الأمة بالنَّصر؟
فى اعتقادى أن جزءا من الأسباب تعود إلى تقصير من القادة أو إلى أخطاء ارتكبوها. بعضهم نسى أو جهل أن من أهمّ وأعظم مهمُّات كل قيادة توليد ورعاية قادة آخرين وليس فقط إنتاج أتباع آخرين، كما يؤكد المناضل السياسى الحقوقى الأمريكى الشهير رالف نادر. البعض الآخر أصابهم شلل التوجّس من وجود أى نوع من القادة الآخرين من حولهم وذلك خوفا من وجود من يزاحمهم فى الشهرة أو المكانة أو النفوذ.
آخرون لم يدركوا أن القيادة تحتاج إلى فريق بقائد وليس إلى قائد بلا فريق. ولذا ناءوا تحت ضخامة العبء الذى حملوه ففشلوا كأفراد قادة وأفشلوا معهم الرسالة.
جميعهم لم يفرّقوا بين مركز الرئاسة ومركز القيادة. فكما أوضح أحدهم بتفصيل شارح فإن رئيس الفريق يخلق الخوف أما القائد فيخلق الثقة، والرئيس يلوم الآخرين أما القائد فانه يصحّح الأخطاء، والرئيس مشغول ومهتُّم بنفسه بينما القائد يركُّز اهتمامه على المناصرين والأتباع. ويستطيع الإنسان أن يعطى ألف مثل على تصرّفات الكثيرين من قادة العرب التى أظهرتهم كأنهم رؤساء نوادى وورش عمل ودكاكين بدلا من تصرُّفهم كقادة مجتمعات وأوطان.
•••
مناسبة طرح هذا الموضوع من جديد ما يلاحظه أى مراقب من إنجراف تدريجى لقيادات ما بعد ثورات وحراكات الربيع العربى نحو ارتكاب نفس الأخطاء والنواقص التى اتصفت بها القيادات العربية السياسية السابقة. فالشخصنة، وعدم رعاية قيادات جديدة، والاستيلاء على كل الأضواء والمنابر، وممارسة ما يشبه مماحكات المنافسة بين رؤساء وورش السَّمكرة، ولوم الآخرين، وازدراء الأخذ والعطاء.. كل ذلك وأكثر بدأ يطلُّ برأسه من جديد.. والنتيجة هى تهديد حقيقى لقدرة أحداث الحاضر المبهرة فى أن تحفر نهرا متدفّقا يمتدُّ فى المكان والزمن العربييّن.
مفكر عربى من البحرين