أمريكا وإيران.. فلترحلا سويا عن العراق
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 17 يناير 2020 - 10:45 م
بتوقيت القاهرة
بعد ثورة الإمام الخومينى فى نهاية السبعينيات مرت الدولة الإيرانية بفترة مراهقة سياسية خطيرة كلفت الدولة والثورة الكثير من الخسائر.. فالثورات حينما تتحول إلى دول ينبغى عليها أن تتعامل بمنطق الدولة الحكيمة العاقلة لا منطق الثائر الأهوج الذى يريد حرب الكون أو هدمه ثم إعادة بنائه على النسق الذى يراه بصرف النظر عن صوابه أم خطأه.
وكانت هناك مظاهر لفترة المراهقة السياسية منها على سبيل المثال تلك المظاهرات الحاشدة التى كان يقوم بها الحجاج الإيرانيون وتهتف «الله أكبر خومينى رهبر» أى زعيم، وذلك فى مكان وزمان لا يذكر فيه أى زعيم أو حاكم مهما كان شأنه لأنه موطن إفراد العبادة والتوحيد والذكر لله وحده، وأحيانا كانت تطلق شعارات سياسية ضد أمريكا «الشيطان الأكبر، تسقط أمريكا، الموت لأمريكا» وذلك فى زمان ومكان لا تصلح فيها السياسة ونزاعاتها وصراعاتها واختلافاتها.
وبعد أن هدأت الدولة قليلا وودعت المراهقة السياسية والثورية.. إذا بها تترك ذلك لتلاميذها الذين يحاربون عنها بالوكالة فى كل مكان فى العراق ولبنان واليمن وسوريا.
إن الإشكالية الكبرى فى حياة إيران هو تمزق فكر الدولة السياسى بين كونها دولة تتعامل بمنطق الدولة وسياستها وكونها ثورة فيها نزق وطيش واندفاع الثورة ورغبتها فى السيطرة على كل شىء.. وهى ممزقة أيضا بين كونها دولة مسئولة عن رعاياها الإيرانيين وبين ما اعتبرته مسئوليتها عن الشيعة فى كل دولة وأنهم رعاياها لأنهم ببساطة أدوات نفوذها وسيطرتها وقوتها، وهم المحاربون بالوكالة عنها فى كل مكان.
ومن الأزمة الفكرية الإيرانية أنها تعتبر اللبنانى والسعودى والعراقى والكويتى والإماراتى والبحرينى والأفغانى والأذربيجانى الشيعى هو من رعاياها وتابع لها وليس من رعايا السعودية أو الكويت أو الإمارات أو البحرين أو غيرها.. وهذه تضرب فكرة الدولة الوطنية فى مقتل.
والغريب أنها لا تطبق على نفسها هذا المبدأ فهى تضطهد السنة فى الأحواز وغيرها وتحرمهم أبسط حقوقهم وتعاملهم بالحديد والنار ولا تقبل أى تدخل من أحد فى شئونها الداخلية.
ومن أسباب الأزمة الفكرية والسياسية الإيرانية هو ازدواج السلطة.. فإيران هى الدولة الوحيدة التى تقود الدولة برأسين أحدهما رأس دينى هو المرشد ورأس سياسى هو الرئيس.
والجميع يعلم أن المرشد هو الحاكم بأمره وهو المتصرف الأساسى فى الشئون الإيرانية سياسيا وماليا وهو الآمر الناهى فيها.. وما الرئيس إلا ظل للمرشد وتابع له ولا يختار إلا برضا المرشد.. ولذلك سيظل الازدواج مهما كان الاتفاق بينهما، لأن المرشد يمثل الثورة وهو المسئول عن الرعايا الشيعة فى العالم والرئيس مسئول عن جزء من رعايا المرشد فقط فى إيران وعليه أن يتصرف بما يمليه عليه أمر المرشد.
وهذه الازدواجية وضحت تماما فى فترة الرئيس الإصلاحى خاتمى الذى أراد أن يكون رئيسا بحق وأن يقوم ببعض الإصلاحات السياسية ولكنه اصطدم بالمرشد والحرس الثورى ومدرسة «قم».. وهؤلاء يملكون كل شىء.
كما تعانى إيران من ازدواجية عسكرية لا توجد فى غيرها وهى انعكاس لازدواج الدولة والثورة أو ازدواج الدين مع السياسة أو ازدواج الرئيس مع المرشد أو ازدواج الدولة مع الإمبراطورية، وهى ازدواجية الجيش الذى يتبع الرئيس عادة مع الحرس الثورى الذى يتبع المرشد ويملك إمكانيات هائلة ويحارب فى كل مكان.. فقد تراه فى سوريا أو العراق أو اليمن أو لبنان ويدرب فى كل مكان.. وهو المسئول الأول عن حماية أو تكوين وتدشين الإمبراطورية الإيرانية الكبرى.. ويعتبر نفسه دولة أخرى ليس داخل الدولة ولكن فوقها.
وهذه الازدواجية ما زالت آمنة ومتماسكة حتى الآن ولكنها خطرة على الدولة فى المستقبل.. لا سيما أن المبرر لها كان فى بداية الثورة لتأمينها، أما الآن فقد استقرت الدولة وأصبحت من أقوى الدول الإقليمية.. ولكن لا يمكن فصل هذه الازدواجية لأن الحرس الثورى هو المسئول عن تكوين الإمبراطورية الإيرانية، أما الجيش فمسئول عن الدولة الإيرانية والأول هو ذراع الثورة والمرشد والثانى ذراع الدولة.
وهناك ازدواجية السياسة والمذهب الشيعى.. فالسياسة براجماتية والمذهب الشيعى قام فى الأصل لنصرة الحق والثورة على الظلم.. والمفروض أن الرئيس يمثل الأول والمرشد يمثل الآخر.
هذه الازدواجية التى لا أعتقد أنها ستحل قريبا وقد لا تحل أبدا تمثل أزمة لإيران، وأزمة للعرب المحيطين بها من جهة أخرى.. فالعرب يريدون من إيران أن تعاملهم بـ«وجه الدولة الروحانى» الحكيم الرقيق.. وليس بوجه الميليشيات والاغتيالات وتحويل الدول العربية إلى «خيال مآتة».
الأزمة تكمن فى أن المرشد أقوى وأبقى من الرئيس، وميزانية قم تفوق ميزانية الدولة، واقتصاد الخمس يكفى لبناء ميليشيات فى العالم كله، وأسرار الحرس الثورى لا يستطيع أقوى حاكم لإيران أن يغزوها أو يعرفها، وقد وقف الحرس الثورى وأنصاره أمام الرئيس خاتمى، فلم يستطع أن يخطو خطوة لإبراز الوجه الحضارى الحقيقى لإيران التى ملأت الدنيا من قبل حضارة وعلما.
فعلى إيران الدولة المتحضرة أن تنفض يديها من الميليشيات جميعا سنية أو شيعية وأن نتعامل مع الدولة المتحضرة بطريقة لا تعتبر الشيعى فى بلاد العرب من رعاياها لتنتظر لحظة الخلاص التى يجهزونها بدءً من الخلايا النائمة وانتهاء بتكوين الميليشيات.
وإيران لها وجهان مع أمريكا، وجه الدولة البرجماتى وهو يدعم أمريكا فى احتلال العراق وأفغانستان.. ووجه آخر ثورى للبسطاء والدهماء يردد مع الميليشيات «أمريكا الشيطان الأكبر والعدو الأعظم» فكيف تساعد على احتلال بلاد العرب والمسلمين وتقسيمها، وتزعم الرغبة فى تحرير القدس، أنت تريد مشروعك الإمبراطورى السياسى فحسب سواءً وافق الاحتلال أو خالفه.
هذه إيران أما أمريكا فقد حرضت صدام حسين والعراق من قبل على دخول حرب عبثية مع إيران لا معنى لها ولا فائدة منها، وذلك لتحطيم وتقزيم وإنهاك الطرفين اقتصاديا وسياسيا وعسكريا.
الجميع يعلم أن الحرب العراقية الإيرانية طبخت فى المطبخ الأمريكى، أوهمت صدام أنها ستقف إلى جواره وتسانده ونفخت إعلاميا فى جيشه وقدراته وأوهمته أن جيشه لا يقهر، فاغتر بنفسه ودخل الكويت فقامت أمريكا بتدمير جيشه كاملا على أرض الكويت ثم تعقبته إلى العراق تدميرا.
احتلت أمريكا العراق بكذبة كبرى لا تليق بدولة كبرى ودمرت حاضره ومستقبله بحجة امتلاكه لأسلحة نووية، والعالم كله يعرف هذه الكذبة الكبرى، ولم تعتذر أمريكا حتى اليوم لا عن كذبها ولا عن احتلالها ولا عن قتلها لأكثر من مليون عراقى وتدمير العراق ومحاولة تقسيمه.
تحالفت أمريكا مع إيران فى غزو العراق، وقامت الميليشيات الشيعية المصنوعة والممولة والمدربة فى إيران بدخول واجتياح العراق بغطاء جوى أمريكى لا مثيل له ثم دخل الجيش الأمريكى العراق واحتله فى سابقة فريدة كأول عاصمة عربية يتم احتلالها بعد انتهاء عهود الاستعمار القديم.
قامت أمريكا وإيران باقتسام ثروات العراق النفطية والأثرية والاقتصادية، وظنت أمريكا أن الدور الإيرانى سينتهى عند تمكينها من العراق والسيطرة عليه، ولكن إيران كانت أذكى بكثير فقد استغلت الاحتلال الأمريكى لزرع رجالاتها وميلشياتها وأسلحتها ودعاتها فى كل مكان فى العراق، وسجنت وقتلت وأجرت تصفيات عرقية لكل المخالفين لها أو المعارضين لها من السنة بحجج مختلفة.
كما أقامت إيران جيوشا شبه متكاملة من الميليشيات الشيعية المتطرفة الموالية لها ثم نجحت فى تحويلها إلى الجيش النظامى فى سابقة فريدة لتحويل ميليشيات متطرفة إلى جيش نظامى، مع أن الجميع يعلم أن ولاء هذه الميليشيات مثل الحشد الشعبى وعصائب الحق وغيرها أكثر دموية وتطرفا من داعش وولاؤها ليس للعراق ولكن لإيران.
فى فترة الاحتلال الأمريكى الإيرانى للعراق تم نهب العراق بالكامل وبلغت ثروات رجال إيران مئات المليارات والتى يريد ترامب تجميدها الآن بدلا من ردها إلى ميزانية العراق.
لم تستفد العراق شيئا من فترة الاحتلال الإيرانى الأمريكى فلم تبن مدرسة أو جامعة أو ينفذ مشروع كبير جديد، وذلك بشهادة كل أئمة الشيعة العراقيين المخلصين الذين قالوا أكثر من مرة أنه منذ وفاة صدام لم يحدث أى تقدم فى أى مجال فى العراق الغنى جدا بكل الثروات، وتم نهبه تماما من الاحتلالين الإيرانى والأمريكى.
توسعت إيران الإمبراطورية وسيطرت تماما على لبنان وسوريا واليمن مع العراق، وأوكلت مهمة الإمبراطورية وتوسعها للحرس الثورى عامة وفيلق القدس خاصة.
وبعض هذه الدول العربية تعانى من عدة احتلالات مثل سوريا التى تحتلها أمريكا وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل ولكن اللاعب الأكبر فيها هو إيران وميليشياتها.
أمريكا وإيران تعاونا وتشاركا وتحالفا فى ملفات كثيرة جدا، ولكن التوسع الإيرانى الإمبراطورى أقلق إسرائيل وحاصرها، وإسرائيل تتحسب للمستقبل.
وقد تركت أمريكا إيران تتغول وتتوغل طوال كل هذه السنوات على حساب الوطن العربى ولكنها فاقت أمريكا فى السيطرة على أربع دول فحان وقت الحساب وزحزحتها عن هذا النفوذ الخطير.
ستكون الحرب بين أمريكا وإيران على أرض العرب، وبأموال العرب، وبدماء العرب، وسيدفع الخليج فاتورتها المالية والنفطية كاملة، والعراق سيدفع فاتورة دمائها، ولن تدفع أمريكا مليما واحدا، ولا لترا واحدا من دماء جنودها، وقد بدأت بمصادرة أموال الساسة العراقيين الشيعة.
ولن تدفع إيران مليما واحدا ولا لتر دم إيرانى واحد، فالبركة فى الخمس الذى يحصد من كل شيعة العالم وأكثرهم الشيعة العرب والبركة فى دماء الميليشيات التابعة لها والتى ستحارب أمريكا بالوكالة فى لبنان والعراق واليمن وسوريا وباكستان وأفغانستان بدماء وأموال العرب.
فلتعش إيران وأمريكا، وليمت العرب لأنهم بلا وحدة ولا إرادة ولا عزيمة ولا فهم ولا أى شىء.
أمة العرب الآن أكلتها أمريكا وإسرائيل وإيران وتركيا وروسيا ولم يبقَ من دولها إلا القليل الجاهز للالتهام أيضا.