أربعة رجال عظام فقدتهم مصر
جلال أمين
آخر تحديث:
الثلاثاء 17 فبراير 2009 - 3:33 م
بتوقيت القاهرة
في أسبوع واحد من الشهر الماضي «يناير 2009» فقدت مصر كاتبين ومفكرين مرموقين هما الأستاذ محمود أمين العالم والدكتور عبد العظيم أنيس. وقبل ذلك بشهرين فقددنا علما أخر من أعلام اليسار المصري هو الدكتور إبراهيم سعد الدين، وقبله بعامين رحل كاتب ومناضل يساري كبير آخر هو الدكتور إسماعيل صبري عبد الله.
هؤلاء الأربعة الكبار الذين لعبوا دورا رائعا في الحركة الاشتراكية المصرية، توفوا جميعا في السنوات الأولى من هذا القرن، كما أنهم ولدوا جميعا في غضون السنوات القليلة التالية لثورة 1919، كلهم إذن حظوا بعمر مديد إذ تجاوزوا كلهم سن الثمانين. كان كل منهم يبادل الآخرين الاحترام والتقدير، بل وجمعت بين بعضهم صداقات حميمة اقترنت بالتعاون في تأليف كتب مهمة، أو في نشاط سياسي وصحفي مؤثر، أو في عمل طويل المدى، وجرى اعتقال معظمهم في نفس الوقت وأطلق سراحهم في نفس الوقت أيضا.
كلما نتأمل المرور حياتهم وصفاتهم الشخصية اكتشفت أشياء مهمة تجمع بينهم جميعا، وأصابها الضعف بالتدريج في الأجيال التالية من اليساريين والمثقفين المصريين، حتى كادت تختفي تماما، لابد أن الأمر يعود إذن، مفضلا عن مواهبهم الشخصية إلى ظروف الحياة في مصر وما طرأ عليها من تغير خلال هذا العمر المديد. فما هو يا ترى ذلك الشيء الرائع في أن يولد المرء خلال السنوات الخمس الأولى التالية لثورة 1919؟.
لابد أن مصر كانت تبدو في عيني صبي مصري ذكى ومرهف الحس في نحو العاشرة من عمره، في السنوات الأولى من ثلاثينيات القرن العشرين، بلدا مثيرا تنبض حياته السياسية والثقافية بالحياة، وواعدا بمستقبل باهر لا يحول بين المصريين وبينه إلا الاحتلال الانجليزي والقصر الملكي وحفنة من السياسيين المتعاونين معهما. ولكن لا شيء هناك يبعث على اليأس من الشعب نفسه ولا على الشك في عظمة تاريخه وتراثه، أو في قدرته على بناء اقتصاد قوى ونظام سياسي نظيف أو إنتاج ثقافة رفيعة.
كل شيء حولهم كان يؤدى إلى هذا الاعتقاد، نعم، كان إسماعيل صدقي باشا قد بدأ الثلاثينيات بإلغاء دستور 1923 وبحكم البلاد بيد من حديد، لكن الحركة الشعبية ضده سرعان ما اضطرته إلى الانسحاب وأعادت زعيمها المحبوب مصطفى النحاس إلى الحكم. نعم، لم تكن المعاهدة التي عقدها النحاس في 1936 مع الإنجليز، معاهدة مشرفة بالضبط رغم تسميته النحاس لها بمعاهدة الشرف والاستقلال، إذ لم تجلب إلا درجة مفقودة من الاستقلال، ولكن الإنجليز كانوا يبدون وقتها في ورطة شديدة بسبب شبح حرب عالمية جديدة، وهم مستعدون للتعاون مع زعيم الحركة الوطنية المصرية وتلبية بعض مطالبها من أجل الاحتفاظ بالاستقرار في مصر، على الأقل حتى تنتهي الحرب.
الانتخابات في عمومها كانت نظيفة، والبرلمان الذي تأتى به محترم والمناقشات التي تجرى في مجلس النواب والشيوخ، على مستوى عال من الكفاءة والأدب. صحيح أن القوانين المرغوب فيها لا تصدر، ولا يمكن أن يصدر في ظل نظام إقطاعي يسيطر ممثلوه على البرلمان، ،ولكن كل هذا بسبب الاحتلال الإنجليزي. فالعقبة أمام التقدم واضحة كالشمس، وهى الاحتلال، والعمل المطلوب أيضا واضح كالشمس، وهو إجلاء الإنجليز، والناس كلهم، باستثناءات تافهة جدا مجمعون على ذلك مثقفين وأميين، طلبة وعمال، طبقة وسطى أو دنيا، من أهل الريف أو المدن.
أما روعة الحياة الثقافية فحدّث عنها ولا حرج. كان هؤلاء الصبية الموهوبون، في صباهم ومطلع شبابهم يفتحون الصحف اليومية فيجدون مقالات بأقلام طه حسين والعقاد والدكتور محمد حسين هيكل، ويقرءون كتب هؤلاء بالإضافة إلى كتب توفيق الحكيم وسلامة موسى، والمقالات الأدبية في مجلتي الرسالة والثقافة الأسبوعيتين، كان على رأس دار الهلال ودار المعارف مثقفان لبنانيان كبيران، ويرأس تحرير مجلات دار الهلال ويشرف على إصدار كتب دار المعارف مثقفون مصريون على أعلى درجة من الوطنية والنزاهة الفكرية. وكان هؤلاء الصبية يستطيعون عند الفراغ من المذاكرة أو من الإضراب ضد حكومة غير شعبية أو ضد الإنجليز، أن يرفهوا عن أنفسهم بالذهاب إلى المسرح أو السينما لمشاهدة مسرحيات أو أفلاما مصرية راقية في مضمونها وفنها، فإذا استمعوا إلى الموسيقى أو أغاني وجدوا أم كلثوم وعبد الوهاب يغنيان أغاني كتب كلماتها مؤلفون من نوع بيرم التونسي أو أحمد رامي أو أحمد شوقي، ووضعت لها موسيقى لم يفسرها بعدما أصابها من إفراط في التغريب بعد الحرب العالمية الثانية.
كانوا كلهم من عائلات تعتز باللغة العربية وبإجادتها لها، وتلقوا هم أنفسهم تعليما جيدا في مدارس حكومية، فلم يذهب أحد منهم إلى مدرسة أجنبية، وتخرجوا كلهم من جامعة فؤاد الأول «القاهرة الآن» وفى المدرسة و الجامعة قرأوا كتب كتبت بلغة عربية صحيحة وسمعوا مدرسين وأساتذة يجيدون النطق والكتابة بلغة بلادهم. لا عجب أن هؤلاء الأربعة كانوا فى كتاباتهم أو محاضراتهم ناصعي الأسلوب واضحي العبارة دائما، وظلوا يعبرون بطريقة أو أخرى عن احترامهم للغة العربية، وكان اثنان منهم على الأقل «أنيس والعالم» عاشقين للأدب، وناقدين ممتازين لما يصور من أعمال أدبية.
كانت المدن المصرية في الثلاثينيات، عندما بدأ هذا الجيل من المثقفين المصريين يعي ويفهم ما يدور حوله من أحداث سياسية واجتماعية، منفتحة على العالم أكثر مما هما الآن، على الرغم من كل ما يقال الآن عن العولمة. صحيح أن الطبقة الوسطى كانت تعتمد على استهلاكها أساسا على سلع مصرية «بفضل طلعت حرب والأزمة الاقتصادية العالمية» ولكن الطبقة الوسطى المصرية، ويا للغرابة، كانت أكثر دراية بما يجرى في العالم الخارجي من تيارات فكرية مما هي الآن. لم يكن هناك تليفزيون بل حتى الراديو كان قليل الانتشار، ولكن كانت الصحف أكثر حرصا على نقل ما يدور في العالم، وكان في مصر مترجمون أكفاء، يفهمون ما يترجمونه ويصفونه في لغة عربية صحيحة ومفهومة.
كم كان هؤلاء الأربعة إذن محظوظين من أكثر من ناحية، بالمقارنة بشبابنا اليوم، دخل كل منهم كلية جامعية مختلفة مما دخله الآخرون، وتتخصصوا في علوم مختلفة: القانون والاقتصاد «إسماعيل صبري»، والإحصاء الرياضي «عبد العظيم أنيس»، والفلسفة «محمود العالم» وإدارة الأعمال «إبراهيم سعد الدين»؛ لكنهم كانوا كلهم موسوعي الثقافة، ويحملون كلهم احتراما حقيقيا لكل أنواع الثقافة الراقية سواء أتتهم من الغرب أو الشرق. كانوا وطنين دون أن يكونوا شوفونيين. يعادون الغرب سياسيا ويحترمونه ثقافيا، ومستعدين للنهل منه إلى أخر الحدود طالما كان في ذلك نفع لمواطنيهم، تجيدون القراءة والحديث بلغة أجنبية «الإنجليزية أو الفرنسية أو كليهما» ولكنهم يجيدون أيضا لتعبير بلغتهم القومية.