إسرائيل.. والثورة المضادة فى السودان!
محمد عصمت
آخر تحديث:
الإثنين 17 فبراير 2020 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
بعد أقل من أسبوعين على اجتماع اللواء عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السودانى مع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى أوغندا، بدأت الطائرات الإسرائيلية أمس الأول فى استخدام المجال الجوى السودانى خلال رحلاتها من تل أبيب إلى دول أمريكا اللاتينية، فى سابقة هى الأولى من نوعها، يعتبرها مراقبون خطوة أولى على طريق التطبيع الكامل بين البلدين، وأن تبادل العلاقات الدبلوماسية بينهما سيكون مجرد مسألة وقت، وأن اتصالات سرية تجرى الآن على قدم وساق فى الكواليس للإعداد لزيارة نتنياهو إلى الخرطوم!
الذين يراهنون على أهمية التطبيع مع إسرائيل فى السودان ليسوا مجرد أفراد ينتمون إلى نخب سياسية وثقافية لها ثقلها فى المجال العام فى البلاد، فهناك قطاعات جماهيرية واسعة تؤمن بأن السودان لا ينتمى أساسا للعالم العربى وأن هويته الحقيقية تنتمى للحضارة والثقافة الإفريقية، وأن البعد العربى فى الهوية السودانية دخيل، وأنه قسم السودانيين عبر التاريخ إلى سادة وعبيد، وأدى إلى هيمنة «العرب الشماليين» بعنصرية فجة على على كل مناطق السودان، وتعامل مع كل أبناء السودان الآخرين وبخاصة الجنوبيين منهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية أو الثالثة، وسلب منهم كل حقوقهم السياسية والاجتماعية، وطمس تاريخهم وثقافتهم عبر مئات السنين منذ الاحتلال التركى للسودان، مرورا بالحكم الثنائى المصرى ــ الانجليزى، إلى ما بعد حصول السودان على استقلاله فى الأول من يناير عام 1956.
ما يردده السودانيون المؤيدون للتطبيع مع إسرائيل هو أنهم باعتبارهم أفارقة وليسوا عربا، لا دخل لهم بالصراع العربى الإسرائيلى، وأن العرب أنفسهم يسعون لاقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، كما أن الفلسطينيين أيضا اعترفوا بإسرائيل عبر اتفاقيات أوسلو، بل إن بعضهم يقول إن إحدى العواصم الخليجية هى التى رتبت لقاء البرهان مع نتنياهو، وأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل سيساعدهم على رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وهو أمر من شأنه أن يساهم فى تخفيف وطأة الازمات الاقتصادية والمعيشية المتفاقمة فى البلاد.
التطبيع مع إسرائيل فى نظر هؤلاء السودانيين هو فى جوهره تعبير عن انتصارهم لهويتهم الإفريقية، وعن رغبتهم فى التخلص من دمجهم القسرى ــ كما يرون ــ بالهوية العربية التى مارست سياسات عنصرية فى السودان، لكنهم فى نفس الوقت يتجاهلون أن إسرائيل بالأساس دولة دينية عنصرية، تمارس أبشع ممارسات القمع والعنصرية والتهميش ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين، وأنهم بالتالى أصحاب قضية زائفة، فكيف يرفضون العنصرية فى بلادهم ويؤيدونها فى بلاد أخرى، كما أنهم أيضا يقعون فى وهم كبير بأن نفوذ إسرائيل لدى العواصم الغربية سيساعدهم على تجاوز محنتهم الاقتصادية، علما بأن إسرائيل نفسها تعانى من عجز فادح فى ميزانيتها، وأنها تنتظر بفارغ الصبر تطبيع العلاقات مع محيطها العربى لاستغلال أسواقه الواعدة فى تجاوز محنتها الاقتصادية!
التطبيع مع إسرائيل نكأ من جديد كل الجراح السودانية القديمة، التى تتعلق بأزمة الهوية وبناء الأمة، لكنه فى نفس الوقت تعبير عن تنامى قوى الثورة المضادة فى السودان، فاللواء عبدالفتاح البرهان يقدم نفسه لأمريكا ترامب باعتباره قائدا عربيا جديدا يؤيد صفقة القرن، وأنه الرجل القوى فى السودان خاصة بعد أن أعلن أن الجيش السودانى يبارك اجتماعه مع نتنياهو، وأنه شخصيا أخبر رئيس الوزراء عبدالله الحمدوك بهذا الاجتماع قبل عقده بيومين دون أن يعترض على ذلك، وهو ما يعزز فرصه فى الانفراد بحكم السودان إذا ما تعثرت الفترة الانتقالية التى يحكم بمقتضاها السودان مجلس سيادى نصفه من المدنيين ونصفه الثانى من العسكريين يهيمنون على قراراته المصيرية!
السودان الآن فى مفترق طرق، الشارع منقسم على نفسه حول التطبيع مع إسرائيل، والأزمات الاقتصادية تتفاقم، والآمال التى كان يعلقها السودانيون على ثورتهم لم تتحقق، والمخاوف تزداد من انهيار ــ تلوح بوادره فى الأفق ــ بين مكونات الثورة من القوى الحديثة، والأحزاب الطائفية التقليدية تبحث عن طرق استعادة نفوذها السياسى القديم، ووسط كل هذه الكوابيس والأزمات والانقسامات تكسب قوى الثورة المضادة أرضا جديدة لتضع السودان كله فى مواجهة مع المجهول!