«نامازو» صانع الزلازل.. لم يقصد بنا شرا
جيهان أبو زيد
آخر تحديث:
الجمعة 17 فبراير 2023 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
من الذى يمكنه تفسير غضب الأرض وثورتها على البشر، من يملك ثباتا ليجد الحكمة فى فورة زلزال يفتك بالأرض ومن عليها، يقتل بلا وجل ويستبيح حياة الصغار والكبار والبشر والحجر؟ وحدها الأساطير هى القادرة على اختراع تفسير فذ يُبهرنا ونحن فى أحضان الأمان لكنه لا يُقدم إلا مزيدا من الغضب حين تبتلع الأرض ذاتها وتنقلب.
تركت الحضارات القديمة المصرية والبابلية واليونانية والرومانية ما يفيد بدرايتهم بالزلازل. وصفت كتب الجيولوجيا الصينية القديمة ما يفيد بوقوع زلزال عام 1177 قبل الميلاد وهو ما تم تصنيفه كأول تسجيل للزلازل، إلا أنه من المؤكد ليس الزلزال الأول للأرض التى تصطدم ألواحها بين حين وآخر لتتخلص من طاقة أرهقتها فيحدث الزلزال الذى يُغير ملامح الأرض ويدفن داخله مدنا ويأتى بأخرى، هذا تحديدا ما وصفته الأساطير، التى تجرأ البعض منها وبعث للفقراء حلما بزلزال يقلب أحوالهم ويبعث بهم من القاع إلى القمة.
الأسطورة اليابانية «نامازو»، إحدى الأساطير القليلة التى وجدت فى الزلازل أملا للضعفاء وثورة على الفقر والغُبن واستعادة للحقوق المسلوبة.. والنامازو هو سمكة قرموط عملاقة يعيش فى المياه العميقة ويسبح فى الأنهار والبحار، وتتسبب سباحته فى حركة زلزال قوية، استطاع إله الرعد ترويض النامازو لكنه مازال قويا ومازال قادرا على خلق دمار شديد؛ لكنه يغير أقدار البعض ويعيد إليهم طيب الحظ إذ إنه يملك القدرة على توزيع الثروة، وفق الأسطورة.
يمثل سمك القرموط التجديد المنتظم للعالم فى الحضارة اليابانية القديمة؛ ووفقا لموقع الأساطير اليابانية، اعتبر الفقراء «سمك السلور» إشارة للحراك الطبقى وفرصة لإعادة توزيع الثروات والموارد، وتغيير سيرورة دورة الحياة فى اتجاه عكسى ليصبح الفقراء أثرياء ويعيش هؤلاء الفقر. تبعث الأسطورة بأمل للضعفاء ربما لتعينهم على تحمل تبعات الزلازل وما تجلبه من موت وفقر وانكسار.
ربما فى أزمان أخرى أو فى رحب عوالم الأساطير حدث أن انقلب الهرم وارتقى الفقراء قمته واستمتعوا برؤية القمم التى لا يلحظها إلا سكان الأبراج والقصور، لكن فى الزمن الراهن لا تجلب الكوارث للضعفاء إلا الانكسار والتشرد والفقر ناهينا عن الألم والحزن الذى يطال القلوب ويقتل أرواح البشر قتلا بطيئا بسكين اليأس والعجز.
• • •
يفسر مسئول بمنظمة الأمم المتحدة ارتفاع عدد الضحايا ــ والذى بلغ حتى كتابة هذا المقال أكثر من 37 ألف ضحية، أغلبهم فى تركيا وقرابة الخمسة آلاف فى سوريا ــ بضعف البنية الأساسية بل وهشاشتها، فالمناطق السورية التى ضربها الزلزال هى مناطق تعلو فيها الأبنية فى زمن حرب بلا رقيب على سلامتها ولا تستند إلى أية مواصفات، فكان أن ارتفعت الجدران التى بنيت فى أغلبها بدون أساس يقيمها، وكأنما هى بانتظار ضربة قذيفة تسويها بالأرض. يقول سكان إدلب إن الهشاشة هى السمة الجامعة لمنازلهم التى انتقلوا إليها هربا من نيران الحرب، وكانت الأمطار فقط كفيلة بتهديدها، لذلك لم يبذل الزلزال جهدا كبيرا فى إزاحة المنازل عن الأرض وفرطها كالرمال فى ثوانٍ. المنازل الواهية كان يسكنها بالأساس هاربون من نيران الحرب السورية. وفى أنطاكيا التركية ــ التى انطلق منها الزلزال ــ تضررت الأجزاء الأفقر فى المدينة والتى تختل فيها معايير البناء وتشترى الذمم ببعض الأموال والهدايا ليضرب الزلزال بنايات لم تستعد له، بل راحت تنهار فوق بعضها البعض تاركة من بقى من السكان على قيد الحياة فى ذهول وغضب على ثورة الطبيعة وعلى قسوة الأنظمة التى تركت حياتهم وأقدارهم ومستقبلهم بيد ثلة من الفاسدين العابثين.
لم تعمل الأسطورة اليابانية إذن على الأراضى التركية أو السورية، بل إن تركيا التى لعبت الدور الرئيسى فى تيسير وصول سفن الحبوب والمعونات الإنسانية جراء الحرب الروسية الأوكرانية لم تحصد إلا الفتات من المساعدات من القارة الأوروبية التى انتظرت ثلاثة أيام قبل الانتباه للزلزال وإرسال متطوعين للمساعدة، لكن المنظمات ما لبثت وتوقفت عن العمل بعد الأيام الأولى ليوضح مدير العمليات لإحدى المنظمتين الألمانيتين المشاركتين فى أعمال الإغاثة قائلا «يبدو واضحا لنا كيف يتحول الحزن ببطء إلى غضب»، مشاهد الغضب والاضطراب أوقفت فرق الإنقاذ عن العمل ودعتهم إلى العودة إلى مواقعهم. ويضيف فى توضيح سبب توقفهم «أن حماية المتطوعين لهى أولوية لنا». وما بين الشرق والغرب تتباعد الأولويات ويُعاد تسعير قيمة البشر وتُقدر التضحيات بحجم ولون ومكانة طالب النجاة... كم هو كاذب وخادع ذلك القرموط اليابانى.
وكان أن أرسلت أوروبا أسلحة وذخائر ومساعدات إنسانية بقيمة 49 بليون يورو إلى أوكرانيا، بينما حظيت سوريا وتركيا معا على 6.5 مليون يورو كمساعدات طارئة فى كارثة وصفتها منظمة الصحية العالمية بالفادحة حيث وفضلا عن من قضوا فى الزلزال فإن التشرد أو العوز سيطال أكثر من 26 مليون إنسان؛ 15 مليونا منهم فى تركيا و11 مليونا فى سوريا. دفع الزلزال بالاتحاد الأوروبى للإعلان عن عقد مؤتمر للمانحين مطلع مارس فى بروكسل لجمع مساعدات دولية لسوريا وتركيا، وبرغم أن نفس المفوضية لم تتوان عن الاجتماع صبيحة تقدم القوات الروسية نحو أوكرانيا لكنها تحتاج إلى ثلاثة أسابيع أو يزيد لعقد مؤتمر وليس للتمويل. يقول الكاتب البريطانى «ديفيد هيرست» فى مقاله بموقع «ميدل إيست آى» أن تعاطى الاتحاد الأوروبى مع كارثة الزلزال الذى ضرب تركيا وسوريا قبل أيام أظهره بلا قلب.
يجوز لنا أن نبدأ نحن أيضا فى نسج أسطورتنا عن الزلازل، فربما يكون القرموط قد فشل فى تغيير أحوال الفقراء لكنه قد يساعدهم فى صناعة زلزالهم وفى رفض تهميشهم، قد تعمل أسطورة «نامازو» ويستفيق الغضب المبعث من عمق الألم مثلما تنبعث الطاقة من عمق الأرض فتزلزلها.