رجاء النقاش.. الناقد الاجتماعي «الحر»
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 17 فبراير 2024 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
... وأستكمل الحديث عن رجاء النقاش (1934ــ2008) ناقدا، وقد كان ناقدا مرموقا ضمن أهم نقاد التيار الاجتماعى فى مصر، خاصة فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، وهى الحقبة التى شهدت انتعاشا نقديا وعجت بأسماء كبار النقاد الذين لم تكتحل أعين الثقافة العربية بمثلهم حتى الآن!
إذا أردنا أن نتحدث عن نقده، وحضوره النقدى، فأنت أمام ناقد جماهيرى بكل ما تعنيه الكلمة، ناقد شُهر باكتشاف أهم المواهب الإبداعية فى عالمنا العربى، ناقد كانت كتابته عن نص لأديب صاعد أو غير معروف تعنى شهادة ميلاد «إبداعية»، واعترافا نقديا قد يكون الأهم فى مسيرة هذا المبدع أو ذاك..
ناقد صاحب ذائقة «رفيعة»، وحس أدبى «عال» وعين خبيرة مدربة «لاقطة»، وبالجملة نموذج للقارئ الممتاز للنصوص الأدبية، يقرأها بقلبه ويحللها بعقله، ويكتب عنها بقلمه الممتع وأسلوبه الجذاب.. ومن من النقاد يحلم بمثل ما حققه رجاء النقاش من جماهيرية وانتشار ومتابعة وتأثير فى مصر والعالم العربى كله؟!
يعتبره كثير من مؤرخى الحركة الأدبية والنقدية، فى النصف الثانى من القرن العشرين، من الرموز التى أسهمت فى إرساء حركة النقد العربى الحديث، فى تياره الاجتماعى العريض المؤثر، من خلال تناوله للأعمال الإبداعية العربية بالدراسة والتحليل، عبر كتاباته الغزيرة والمتنوعة فى الصحف والمجلات المصرية والعربية، وعبر عديد من الكتب النقدية التى أسست لأجيال من الكتاب.
وكل من تعرض لدراسة تيارات واتجاهات النقد فى العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، لا يمكن أن يغفل أو يتغافل عن نقد رجاء النقاش، وجماهيريته، ومقروءيته العالية التى ربما لم تتسن لناقد آخر غيره؛ وذلك ربما لجمعه بين الصحافة والنقد معا ما أتاح له مساحة انتشار كبيرة عبر الصحف والمجلات التى كان من أبرز نجومها وكتابها.
ــ 2 ــ
والقارئ الفاحص المدقق لخطاب رجاء النقاش النقدى، سيجد أنه يتسم بحزمة من الخصائص العامة لخصها المرحوم جابر عصفور فيما يلى:
أولا: أنه نقد متطور، أفاد إفادة كبيرة من تطورات نظرية التعبير الرومانسية (فى تجلياتها الاجتماعية) فى نقده المبكر الاستهلالى، وأن العملية النقدية تبدأ عنده منذ اللحظة التى يتأثر فيها وجدانه بالعمل المقروء، فيسعى إلى فهمه وتفسيره، ومن ثم تقييمه، وما بين الفهم والتفسير، يظل مشغولا بجمع القرائن الدالة التى يجدها فى العمل، ويصل بينها لتصور معناه، قبل تقديم هذا المعنى إلى القارئ فى هيئة تفسير للنص، وهى عملية تفضى إلى تحديد القيمة الموجبة للعمل أو نفيها عنه.
وثانيا: كان ينطلق فى ممارسته النقدية من خبرة القراءة المباشرة للنصوص، وطول الإنصات لها والتعمق فيها، ومن ثم فقد كان يؤمن؛ مثله مثل أستاذه وأستاذ أساتذته الدكتور طه حسين، بأن «الناقد هو مستشار القارئ المخلص الأمين»، وقد انعكس ذلك فى الحرارة الصادقة والحماسة الملتهبة التى كان يكتب بها رجاء النقاش نقده خصوصا فى التجارب الأولى لأصحابها أو النصوص الأولى التى كان يشتم منها موهبة أصيلة، وإعلانا عن ميلاد كاتب أو مبدع أو شاعر كبير.
وكان يرى (وأنا مثله فى ذلك تماما) أن الكتابة النقدية لا تكون إلا عن النصوص التى نحبها ونتحمس لها ونتفاعل معها، وأنه لا ضرورة أبدا للتصدى إلى معالجة النصوص الرديئة، فيكفى الإشارة إلى نقيضها للدلالة على القيمة الجمالية العليا.
وثالثا: وارتباطا بالإشارة السابقة إلى التحمس الشديد للنصوص الأولى التى كان يتنبأ فيها بموهبة حارقة وكتابة أصيلة، فقد كان رجاء النقاش قولا وفعلا، أحد صائدى المواهب القلائل، ومكتشفى نجوم الكتابة المبرزين، والمبشرين بالأصوات الإبداعية المتميزة، فى الرواية والقصة والمسرح والشعر، وكل أشكال الكتابة الإبداعية.
ــ 3 ــ
كما ارتبط اسم رجاء النقاش ناقدا وكشافا مستبصرا للمواهب المبدعة التى ستصير فى الصف الأول من نجوم الكتابة العربية طوال نصف القرن التالية، وحتى وقتنا هذا، بأسماء أحمد عبدالمعطى حجازى، وصلاح عبدالصبور، ومحمود درويش، والطيب صالح، ومحمد الفيتورى، ومعظم كتاب الستينيات فى القصة القصيرة والرواية والمسرح.
ورابعا وأخيرا: أنه كان نموذجا ناصعا على ثقافة الناقد وتكوينه الموسوعى، وقدرته على الجمع بين نقد الأنواع الأدبية المختلفة، وإدراك جمالياتها وخصائصها النوعية، وغزارة الاطلاع على النتاج الإبداعى معظمه فى القصة القصيرة والرواية والمسرح..
وكانت لديه الشجاعة لكى يخوض المعارك والمساجلات النقدية حول قضايا الأدب والقومية العربية، وضد التيارات المبشرة بالحداثة الأدبية فى تجلياتها الأكثر تطرفا وغموضا وإبهاما، ولذلك ظل نافرا مما رأى فيه تعقيدا مسرفا فى الرمزية لا السريالية..
ــ 4 ــ
على المستوى الشخصى، ربما كان أول وأجل الدروس التى تعلمتها منه أن «النقد لا يقتل».. فليس من وظيفة النقد «الاغتيال المعنوى» وإلقاء التهم جزافا؛ لأنه ببساطة قائم على التفكير والحوار الحر الذى ينطلق من مبادئ وأحكام يقبلها العقل، وبابه مفتوح دائما للتنوع والاختلاف والأخذ والرد والمراجعة، ما ظل فى دائرة التعامل مع «نص» يناوشه ويشتبك معه، ويحاوره بل ويرفضه، وليس الهدف النيل من «شخص»، تحقيقا لغرض أو إرضاء لمرض أو إشباعا لنقص أو قصور فى التكوين والسلوك والتصور.
والناقد مهما كانت قوته ومكانته، لا يصدر «أحكاما قضائية» واجبة التنفيذ، وليس من مهامه محاسبة الناس والغوص فى ضمائرهم ومحاسبتهم بالظنة والشبهة، بل هو يطرح آراء حول نصوص أو أفكار أو إبداعات، آراء لها حيثياتها المنطقية، محاولا فى النهاية إقناع من يخاطبهم بها، ولهم، ومن حقهم، أن يقتنعوا أو لا يقتنعوا من خلال الوسائل المشروعة والمقبولة نشرا وإذاعة..
هذا هو الناقد «الحر» الأصيل الذى مثله رجاء النقاش فى حياته كلها، وفى كل ما كتب.