السلام من خلال القوة

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 17 فبراير 2025 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

شكلت القوة المادية الصلبة، بشقيها الهجومى والدفاعى، أحد أهم المفاهيم التى ارتكز عليها الفكر الواقعى الكلاسيكى فى حقل العلاقات الدولية، بزعامة، هانز مور جانثاو؛ ثم مدرسة الواقعية الجديدة، بقيادة، كينيث والتز. ومع أفول الحرب الباردة، اعترت مفهوم القوة عدة تطورات، أسفرت عن بروز نوعين جديدين، هما: القوة الناعمة والقوة الذكية اللتان أصّل لهما لاحقًا، جوزيف ناى، الأب والابن.

 


على وقع تلاقى اصطلاحى القوة والسلام، تبارت محاولات التأريخ لبزوغ مقاربة «السلام من خلال القوة». فثمة من يرجعها إلى الاستراتيجى الرومانى، فيجتيوس، صاحب المقولة الشهيرة إذا كنت تريد السلام فاستعد للحرب. وبينما يروق للبعض نسب هذا التعبير إلى، سان أوغسطينوس، فى رائعته مدينة الله؛ يعزوه فريق ثالث إلى الإمبراطور الرومانى، هادريان، الذى دعا إلى بلوغ الأمن والاستقرار عبر بناء الحوائط الدفاعية.
أمريكيا، ظل المفهوم ماثلًا منذ تأسيس الجمهورية الأمريكية. حيث تبدو فلسفة القوة مهيمنة على الفكر الأمريكى منذ نشأته، إذ مثّل طرح القوة الأداة الوحيدة، التى يمكن من خلالها الحفاظ على مقدرات السلام فى «أمة قارية"، تمتد بين محيطين غربا وشرقا. ولقد شكلت تلك الاستراتيجية جوهر السياسة الخارجية لدى العديد من الآباء المؤسسين للبلاد ورؤسائها منذ عام 1789، وحتى اليوم. وتتلخص الفرضية الأساسية لهذه الاستراتيجية، فى أن الولايات المتحدة إذا ما بنت قدرات عسكرية هائلة، مع نسبة تفوق غير عادية على المهاجمين المحتملين، فلن تجرؤ أية دولة أخرى على مهاجمتها، لأنها تعلم أن هذا من شأنه أن يجلب عليها الدمار السريع والمطلق. وفى هذا، يقول، ألكسندر هاملتون، أحد أهم الآباء المؤسسين، عن "السلام من خلال القوة": إن "الحاميات القوية فى الغرب والبحرية فى الشرق، من شأنها أن تحمى الاتحاد من تهديد بريطانيا وإسبانيا". وفى طيات الأوراق الفيدرالية الأولى، التى بنيت عليها فلسفة الحكم الأميركى، يتجلى ذلك المفهوم المركزى. فقد تحدث عنه أول رئيس للولايات المتحدة، وبطل حرب استقلالها، جورج واشنطن، أمام الكونجرس عام 1793. وارتأى الرئيس الرابع، جيمس ماديسون، أنه مفهوم مدمج فى السياسة الأميركية المستقرة. فيما ترددت أصداء المفهوم فى مقولة، ثيودور روزفلت، الشهيرة: "تحدث بهدوء، وأنت تحمل عصا غليظة".
احتل السلام من أجل القوة، عنوان كتاب عن خطة دفاعية وضعها، برنارد باروخ، مستشار الرئيس، فرانكلين روزفلت، أثناء الحرب العالمية الثانية. من هنا، استلهمت القوة الجوية الثامنة، التى تأسست قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، شعارها «السلام من خلال القوة». وخلال الحملة الرئاسية للسياسى الشهير، بارى غولدووتر، عام 1964، أنفق الحزب الجمهورى زهاء خمسة ملايين دولار على الإعلانات التليفزيونية، التى تروّج لموقف، جولدووتر، حيال السياسة الخارجية، والمنبثق عن مفهوم «السلام من خلال القوة». وفى عديد مؤلفات سياسية، نظَر، هنرى كيسنجر، رائد توجه التماس المصالح الوطنية، المستندة إلى المدرسة الواقعية فى السياسة الخارجية، لنظرية «السلام من خلال القوة». تلكم التى شقت طريقها بسلاسة إلى التطبيق العملى، إبان وجوده فى إدارتى نيكسون وفورد.
• • •
لا تبتعد مقاربة «السلام من خلال القوة»، عن نظرية الاستقرار بالهيمنة، التى أصل لها، تشارلز بى. كينديلبيرجر، فى مؤلفه الصادر عام 1973، بعنوان: «العالم فى كساد: 1929-1939». والتى تذهب إلى أن النظام الدولى لا يبقى ثابتًا ومستقرًا، إلا عندما تغدو دولة بعينها، هى القوة العالمية المهيمنة على ذلك النظام، والمنظمة لتفاعلاته.
فى الـ23 من مارس 1983، ألقى ، ريجان، من مكتبه البيضاوى، خطابًا إلى الأمة الأمريكية بشأن «الدفاع والأمن الوطنى»، كان بمثابة «مانيفستو» للترويج لفكرة الحفاظ على السلام الأمريكى من خلال تعاظم القوة الأميركية. فى ذلك الخطاب قدم، ريجان، واحدة من أكبر الموازنات الدفاعية الخاصة بالصواريخ الباليستية النووية بتكلفة إجمالية 26 مليار دولار موزعة على خمس سنوات. كما ربط بين تعزيز الدفاعات الأميركية والحفاظ على السلام، عبر اعتماد زيادة هائلة فى برنامج الدفاع. فى الأثناء، عمد «مجلس الأمن الأمريكى غير الربحية»، وشركة الاتصالات الأمريكية، إلى الترويج لمفهوم السلام من خلال القوة. ومن ثم، أطلق ريجان برنامج حرب النجوم عام 1983، الذى استدرج الاتحاد السوفييتى إلى سباق تسلح مجهد وغير متكافئ. وقد لعب تيار اليمين الدينى التوراتى دورًا بالغًا فى بلورة مفاهيم ريجان وسوّق رجالات من نوعية، جيرى فالويل، وبات روبرتسون، وغيرهما، لسردية روحانية عن «رب القوة، القوى الجبار، القاهر فى الحروب».
بدوره، استخدم البروفيسور، جيم جورج، من الجامعة الوطنية الأسترالية مفهوم السلام من خلال القوة، لوصف جزء مما زعم أنه السياسة الخارجية «الشتراوسية» والمحافظة الجديدة لإدارة، جورج دبليو بوش. كما تم توظيف عبارة «القوة من خلال السلام»، فى بعض الأحيان، لانتقاد الإفراط فى استخدام الأداة العسكرية فى السياسة الخارجية، استنادًا إلى مفهوم السلام من خلال القوة. وأثناء حملته الانتخابية الرئاسية عام 2008، تبنّى النائب عن ولاية أوهايو، دينيس كوسينيتش، شعار «القوة من خلال السلام»، كجزء من برنامجه، بوصفه، مرشح سلام مناهض لحرب العراق.
يمكن تلمس سياسة السلام من خلال القوة فى عقيدة وولفيتز، التى صاغها السياسى الأمريكى المعروف بحماسه للتفوق الأمريكى، بول وولفويتز،عقب تهاوى المعسكر السوفييتى. تلك التى تلزم الولايات المتحدة بمواصلة احتكار القيادة الأحادية للنظام الدولى، وعدم السماح لأية قوة عظمى أخرى بتوظيف قدراتها ومواردها، لتغدو قطبا عالميًا ينازع واشنطن تلك القيادة. مع تطوير آليات ردع المنافسين المحتملين، والاحتفاظ بحق التدخل فى أى مكان وزمان، تراهما مناسبين أو ضروريين لاستدامة القطبية الأحادية.
• • •
فور توليه فترته الرئاسية الأولى فى يناير 2017، استشهد ترامب بفكرة السلام من خلال القوة، باعتبارها جوهر سياسته الخارجية، القائمة على مبدأ «أمريكا أولًا». وعلى هذا النحو، نصت مقدمة استراتيجية الدفاع الوطنى الأمريكية لعام 2018 على: إن وضع القوات الأمريكية جنبًا إلى جنب مع الحلفاء، سيحافظ على السلام من خلال القوة، وستستمر الوثيقة فى تفصيل ما يتطلبه تحقيق السلام من خلال القوة. وفى سبتمبر2020، أعلن ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن بلاده تحقق مصيرها كصانعة سلام، من خلال القوة. وأثناء إعلانه عن التوصل لصفقة وقف إطلاق النار فى غزة، منتصف يناير الماضى، قال: «سنواصل الترويج للسلام عبر القوة فى المنطقة، والبناء على زخْم وقف إطلاق النار لتوسيع اتفاقات السلام». وبعدما أدى القسم لولايته الرئاسية الثانية بداية الشهر الماضى، جدد ترامب التأكيد على فكرة السلام من خلال القوة. بل ووجه وزير خارجيته لتوظيف الدبلوماسية الأمريكية لهذا الغرض. وفى 13 فبراير الجارى، أكد وزير الدفاع الأمريكى أن الرئيس ترامب كلفه بتحقيق السلام من خلال القوة.
توخيا منها لمواكبة ذلك النهج الأمريكى المقلق، لم تتورع الإدارة الروسية الحالية عن تبنى ذات المقاربة. ففى الثانى عشر من الشهر الجارى، وصف نائب رئيس مجلس الأمن الروسى، دميترى ميدفيديف، ضربات الصواريخ الباليستية العنيفة، التى شنتها القوات الروسية، على العاصمة الأوكرانية كييف، بأنها تطبيق لاستراتيجية السلام من خلال القوة.
• • •
لم يحل الزخم الذى تحظى به نظرية «السلام من خلال القوة»، دون بروز انتقادات شتى لها. فليست القوة هى الوسيلة الوحيدة لإدراك السلام، الذى يجب أن يترسخ عبر التفاهم والاعتراف المتبادل بالفوائد، التى يغمر بها الأطراف المعنية. فثمة من يرى أن هذه النظرية يمكن أن تأتى بنتائج عكسية؛ إثر الوقوع فى فخ «غرور القوة المفرطة»، الذى يغرى السياسيين والعسكريين للتورط فى مغامرات كارثية. ومن ثم، يتحول «السلام من خلال القوة» إلى «الحرب من خلال القوة». الأمر، الذى يفضى إلى عسكرة العلاقات الدولية، عبر إشعال النزاعات المسلحة، تغذية صراع النفوذ، وتأجيج سباقات التسلح، بوجهيها التقليدى وغير التقليدى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved