نسف (السلام البارد) مع سوريا
سعد محيو
آخر تحديث:
الأربعاء 17 مارس 2010 - 9:45 ص
بتوقيت القاهرة
هل انتهت مرحلة اللاحرب واللاسلام فى الشرق الأوسط، أو على الأقل شارفت على الانتهاء؟
يبدو أن الأمر كذلك.
فكلما ازدادت أحاديث السلام، خصوصا بين سوريا وإسرائيل، برزت فجأة احتمالات الحرب. والعكس صحيح أيضا: كلما تعالت صرخات الحرب، تنطلق فى موازاتها صرخات مقابلة تدعو إلى السلام «اليوم والآن».
هذه الواقعة تبدو واضحة بجلاء فى الداخل الإسرائيلى. ففيما تستعد الدولة العبرية للحرب وكأنها ستقع غدا، تسرّب القيادة العسكرية ــ الأمنية الإسرائيلية، وهى المسئول الأول والأخير عن شنّها، معلومات تؤكد أنها تعتبر السلام مع سوريا مخرجا ممتازا من المأزق الاستراتيجى الذى تعيشه تل أبيب هذه الأيام بين مطرقة القنبلة النووية الإيرانية الوشيكة، وبين سنديان صواريخ حزب الله ومن ورائها صواريخ سوريا التى باتت تضع المدن الإسرائيلية فى قلب معادلات الصراع.
ومن الداخل الإسرائيلى إلى خارجه. فإيهود باراك موجود منذ أيام فى واشنطن، وهو يجرى ليس فقط محادثات علنية فى إطار لجنة الحوار الاستراتيجى الأمريكى ــ الإسرائيلى، بل أيضا مفاوضات سرية، على ما تقول الصحف الإسرائيلية، مع كبار المسئولين فى البنتاجون ومجلس الأمن القومى الأمريكى تتعلق بحزب الله وحماس وسوريا.
ما يرشح إعلاميا عن هذه المحادثات، التى انضم إليها بعد أيام الجنرال أشكينازى رئيس الأركان، يشير إلى أن الولايات المتحدة لا تزال ترفض منح إسرائيل الضوء الأخضر لضرب إيران، خوفا من تداعيات كبرى على المصالح والقوات الأمريكية فى العراق ومنطقة الخليج. لكن وحين يأتى الأمر إلى احتمالات الحرب فى لبنان وسوريا، تبدو الأضواء مُلتبسة: لا هى بالأخضر ولا هى أيضا بالأحمر.
فواشنطن تبعث باستمرار رسائل (باتت شبه يومية على ما يبدو) إلى تل أبيب ودمشق تدعوانهما فيها إلى ممارسة «ضبط النفس» ونزع فتائل التصعيد.. لكن واشنطن تُرفق أيضا هذه الرسائل بتهديدات مُبطّنة إلى سوريا مفادها أنها لن تستطيع أن «تضبط» إسرائيل طويلا، وأنه سيكون عليها الإسراع فى تغيير طبيعة تموضعها ليس السياسى وحسب بل الإستراتيجى أيضا فى المواجهات الجديدة فى الشرق الأوسط.
هذا الموقف الأمريكى المُلتبس يجب أن يقرع أجراس إنذار قوية فى دمشق وبقية العواصم العربية المعنية، لأنه قد يعنى أن إدارة أوباما التى استسلمت فى الأشهر القليلة الماضية لقرار نتنياهو برفض مشروع السلام الكبير الذى كانت تُعدّه الإدارة بين إسرائيل والعالم الإسلامى برمته، ربما تستسلم أيضا لقراره بشن الحرب فى المشرق العربى.
هذا المعطى الأخير بالتحديد هو الذى يكسو السؤال عن احتمال انتهاء مرحلة اللاحرب واللاسلام، على الأقل فى الداخل الإسرائيلى، الكثير من اللحم والعظم. فحين تتوقف هذه المرحلة عن كونها ميزة تصب مباشرة فى مصلحة التصوّر الإسرائيلى لمسألة موازين القوى فى الشرق الأوسط، يبرز مباشرة احتمال الحرب كبديل وحيد عن هذه المرحلة.
بالطبع، تل أبيب تفضّل كثيرا أن يحقق التهديد بالحرب والضغط النفسى والسياسى المترافق معه ما يُمكن أن تحققه الحرب الفعلية. أى: تغيير سلوك النظام السورى إزاء المجابهة الراهنة مع إيران وحلفائها فى المنطقة..إذ إن ذلك سيمكنها من قطف الثمار الإستراتيجية اليانعة، من دون الحاجة إلى تجرّع كأس إعادة الجولان فورا إلى سوريا.
لكن، ماذا عن سوريا؟ وبالتحديد، ماذا عن موقفها من سؤال اللاحرب واللاسلام؟
ثم: هل حسمت سوريا موقفها نهائيا، فأدارت الظهر لكل الإغراءات الأمريكية والفرنسية والسعودية، ويمّمت وجهها نحو ترسيخ حلفها الاستراتيجى مع إيران؟
«نكتة» الرئيس الأسد بأنه «فهم الأمور خطأ..(أى طلب هيلارى كلينتون منه وقف دعم حزب الله والابتعاد عن إيران).. ربما بسبب الترجمة أو محدودية الفهم، ولذا وقّعت اتفاقية إلغاء التأشيرات بين البلدين»، أوحت للكثيرين بذلك.
وهذا الانطباع تأكد أكثر بعد أن تسربت معلومات عن طبيعة المحادثات التى أجراها الأسد مع كبار المسئولين الغربيين، وفى مقدمهم رئيس الحكومة الفرنسية فرنسوا فيون ووليم بيرنز وكيل وزارة الخارجية الأمريكية. وهى كلها أوضحت أن دمشق ترفض فك الارتباط بإيران، ولا تنوى لا الآن ولا غدا الانضمام إلى التحالف الغربى ــ العربى «المعتدل» ضدها.
لكن الصورة ليست على هذا النحو. ليس تماما على الأقل.
فدمشق، وعلى رغم عدم تبنيها النظرة الغربية إلى إيران بوصفها «خطرا وجوديا نوويا واستراتيجيا»، لم تقل مرة أنها تريد العمل معها لقلب الموازين فى الشرق الأوسط أو ــ كما يدعو الرئيس نجاد ــ لإقامة شرق أوسط إسلامى «خال من الصهيونيين والأمريكيين». كل ما تدعو إليه عاصمة الأمويين هو اعتراف الغرب بإيران كقوة إقليمية رئيسة والتعامل معها باحترام، كما الاعتراف أيضا بأن النظام الإيرانى لن يرضخ لا للحصار الاقتصادى ــ الدبلوماسى ولا للتهديدات العسكرية.
الأسد هنا يلعب دور «الناصح» للغرب لا المعادى له. وهو هنا «بالمناسبة» يلقى مع وجهة نظر الرئيس الأمريكى أوباما ومعه مؤسسة وزارة الخارجية الأمريكية والعديد من أجنحة «السى. آى. آى» ومجلس الأمن القومى، والتى تعتبر كلها إيران مجرد «مشكلة خارجية» يمكن حلها بعاملى الزمن والحصافة الدبلوماسية، لا تهديدا وجوديا واستراتيجيا للغرب ولا حتى لإسرائيل.
ثم إن الأسد، وعلى عكس نجاد الذى يريد محو إسرائيل عن الخريطة، يريد تثبيتها على هذه الخريطة عبر سلام عادل ودائم معها. كما أنه، وعلى عكس نجاد أيضا، يعتبر المقاومات الإسلامية فى فلسطين ولبنان وسيلة للضغط على إسرائيل لا غاية لتدميرها.
باختصار: الأسد لا يريد مجابهة الغرب ولا تبنّى المواقف الإيديولوجية الإيرانية المُعادية له. إنها يريد الإمساك بالعصا الشرق أوسطية من وسطها. وهذا قد يعنى فى أجمل العوالم لعب دور الوسيط المعتمد من قبل طهران وواشنطن.
فى عهد الرئيس بوش كان هذا الموقف هو الهرطقة بعينها..لكن فى عهد الرئيس أوباما ليس الأمر على هذا النحو..
ليس بعد..لكن إلى متى؟
هنا سنكون على موعد مع التطرف الليكودى ــ اليمينى الأمريكى، الذى لا يزال مصرا على اعتبار إيران تهديدا وجوديا لا مشكلة سياسية، والذى قد يدفع المنطقة فى أى وقت إلى شفير الحرب.
أوباما علق فى شباك هذا الثنائى، حين انتصر عليه نتنياهو والكونجرس سريعا فى موقعة المستوطنات. وفى حال فشل الرئيس الأمريكى فى الانتقال «من الأمل إلى الشجاعة»، كما طالبه زبجنيو بريجنسكى مؤخرا (فى مجلة الـ«فورين أفيرز»)، فإن الأبواب ستكون مشرعة على مصراعيها أمام احتمال جرّه إلى مغامرة التصعيد الأمنى ــ العسكرى الإسرائيلى.
وهو بالمناسبة تصعيد وشيك على ما يبدو. وقد يكون هدفه الاستراتيجى الرئيس ليس إيران بل تغيير موقف سوريا منها..ولذا، يتعيّن على الرئيس الأسد أن يكون حذرا، حتى وهو يلقى النكات الظريفة للغاية!