لأول مرة منذ 1977 الشعب المصرى يمارس السياسة
حسن المستكاوي
آخر تحديث:
الخميس 17 مارس 2011 - 9:53 ص
بتوقيت القاهرة
●● كنت أؤكد دائما أن هناك سببين يدفعان الشعوب للخروج بالملايين إلى الشوارع. السبب الأول هو انتصارات فرق كرة القدم، باعتبارها ترجمة للتفوق الحضارى والعسكرى والرياضى. ويشهد على ذلك مشاهد خروج جماهير فرنسا وألمانيا وكوريا واليابان، فى أعقاب مباريات انتصرت فيها منتخبات بلادهم..
السبب الثانى الذى يدفع الملايين من الشعوب للخروج إلى الشوارع هو تأييد واقع سياسى أو لرفض واقع سياسى.. وفيما يتعلق بالسبب الأول كانت مشاهد احتفالات المصريين فى الأذهان منذ التعادل مع هولندا فى مونديال إيطاليا 90، ونهاية بالانتصارات المتتالية فى بطولات الأمم الأفريقية..
وفيما يتعلق بعلاقة مصر بالسبب الثانى، أظن أنه بعد خروج الملايين فى انتفاضة 18 و19 يناير عام 1977.. انقطعت صلة الشعب المصرى بالسياسة، وبتأييده وأصبح الشعب يخرج بالملايين من أجل انتصارات فرق كرة القدم فقط.. حتى خرج المصريون يوم 25 يناير وهم يهتفون للحرية والديمقراطية، وكانت تلك شرارة الثورة الشعبية الأولى فى التاريخ الحديث. وكانت تلك الثورة وراء هذا التحول الجذرى فى الشارع المصرى، الذى أصبح يتعاطى السياسة ويضعها فى أولوياته. وهو تغيير حقيقى وصحى وطبيعى
●● الشعوب التى تخرج لتأييد واقع سياسى أو لرفض واقع سياسى تفعل ذلك لأنها تشارك فى إدارة دولها بإرادتها، وتدرك أنها تملك الدولة، وشرحنا ذلك بالنسبة لمصر وقلنا إن الظاهرة تتجلى فى الإقبال على انتخابات الأندية الرياضية، بينما لا تحظى الانتخابات السياسية بأى إقبال، لأن أعضاء النادى يملكونه فى يقينهم، بينما أعضاء الوطن يرون أنهم لا يمتلكونه!
●● المشهد المصرى هو امتداد لمشهد عربى يعيش حالة فوران وغليان من الماء إلى الماء.. من المحيط إلى الخليج. هو مشهد عظيم ومدهش. ولكنه يعبر بحق عن خوض الشعوب العربية لمعركة الاستقلال الثانية.. كانت المعركة الأولى قد انطلقت شرارتها من مصر مع ثورة يوليو فى الخمسينيات. وكانت تلك المعركة ضد الاحتلال.. والآن تخوض الشعوب العربية معركتها الفريدة ضد أنظمتها.. وربما تعد المنطقة العربية وكوبا من المناطق النادرة فى العالم الآن التى تعانى من ظاهرة «حكام إلى الأبد».
●● ظاهرة اختصار الوطن فى الفريق تتجلى فى دول العالم الثالث أكثر من غيرها، لأسباب تتعلق بحاضر تلك الشعوب ولأسباب تتعلق بجذور تلك الدول.. وقد أوضحنا فى مقالات سابقة أهمية كرة القدم وكيف تجسد منطق الصراع الجماعى، وكيف أن اللعبة تعوض عند الإنسان غريزته الفطرية للحرب، وقد أصبحت كرة القدم بديلا مشروعا لتلك النزعة. وعندما خسرت إسبانيا أمام فرنسا فى دور الستة عشر لكأس العالم عام 2006، تعاملت الصحافة الإسبانية مع الخسارة كما تعامل التاريخ مع معركة تحطيم أسطول الأرمادا الإسبانى أمام نظيره البريطانى منذ قرون.. فخرجت الصحف فى مدريد وهى تتحدث عن الخيبة، والفشل، والعار، والحرب التى هزمت فيها الكرة الإسبانية.. لكن الصحافة الإسبانية عندها أيضا الأحزاب (العدد يزيد على 130 حزبا).. وعندها تداول السلطة، وعندها ملك لا يحكم.. وعندها بجانب هذا برشلونة وريال مدريد!
●● تلك اللعبة أعمق وأوسع وأهم من أن تسطح، أو تعتبر هزلا وحصة ألعاب فالمباراة الواحدة تكون أحيانا مثل دورة ألعاب فى الثقافة والسياسة والتاريخ والعسكرية والعلم والتكنولوجيا.. لم تعد الحروب حلا وحيدا أو خيارا وحيدا عند الدول وعند شعوبها بحثا عن علم التفوق ورفع رايتها.. إلا أن شعوب العالم الأول، يجمعها السياسة، والعمل، والقضايا الوطنية. وهم يرون فى مباريات كرة القدم فرصة للترويح والخروج عن الروتين، وقد قالت دراسات عديدة عن كرة القدم فى هذا العالم الأول إن الملعب يجمع بين المؤيدين وهم الجمهور وأبطالهم وهم اللاعبون وأن هذا الملعب أحد الأماكن القليلة التى يستطيع فيها الإنسان أن يفلت من القانون والضوابط والقيود الصارمة التى تنظم حياته فى الشارع والمدرسة والعمل والمنزل ولذلك فهو فى الملعب ينفلت ويفرح ويصرخ وينفعل ويغضب وسط سلوك جماعى مماثل.. وهذا السلوك الجماعى مثير للبهجة فى جميع الأحوال بما فيه من مشاركة واتفاق..!
●● إن كرة القدم لعبة عند العالم الأول تظل فى النهاية لعبة، وهم لا يلقون بهموم السياسة فى ملاعب الرياضة. هذا هو الحال العام.. إلا أن الحال من المحال أن يستقر ويستمر، فلابد من حالات استثنائية.. ومنها أن بعض السياسيين يلعبون بالرياضة فى ساحة السياسة، ومن ذلك حزب بيرلسكونى فى إيطاليا، واسمه «فورزا إيطاليا» وهو نداء مشجعى المنتخب الإيطالى.. وكثيرون هم الذين لعبوا بالرياضة فى ساحات السياسة، ففى النمسا قرر اليمينى يورج هايدر تحسين صورته برئاسة نادى كارنثن، وفى البرازيل يرتدى السياسيون فانلات فرقهم فى حملاتهم الانتخابية فكرة القدم هى التى جعلت للبرازيل اسما عالميا مدويا.
وفى الأرجنتين اشترى مارشيو ماكرى فريق بوكا جونيورز أفضل أندية أمريكا الجنوبية وقد تولى منصبا سياسيا بعد الأزمة الأرجنتينية الطاحنة والشهيرة فى ديسمبر 2001، وخلال تلك الأزمة التى شهدت ثورة الطبقة المتوسطة وانهيار العملة اندلعت المظاهرات وأثناء تلك المظاهرات ارتدى المتظاهرون فانلات المنتخب الأرجنتينى التى كتبوا عليها «باستا» أى يكفى. وأعظم ظواهر المجد الأرجنتينى وهى كرة القدم استخدمت لإهانة الطبقة الحاكمة.
●● اللاعبون فى أوروبا يدركون أنهم موهوبون، وأن وظيفتهم هى ممارسة كرة القدم من أجل امتاع جموع المشاهدين بكرة قدم هجومية بلا توقف، فالمهم أن تكون الأهداف كثيرة وغزيرة، وهم يحاسبون بقسوة حين يغيب الأداء الهجومى، بينما يحاسب اللاعب العربى حين يخسر وينكسر، باعتبار أنه أهان بلاده بالخسارة وكسرها.. ولذلك أصبحت الأناشيد والأغانى الوطنية فى بلاد العرب مرتبطة بمباريات كرة القدم، لأن معارك العرب الوطنية اختصرت فى المباريات، بعد أن اختصرت الأوطان فى فرق، واختصرت الوطنية فى رفع علم الوطن بعد كل فوز بمباراة.. وهذا كله تغير الآن بعد ثورة 25 يناير، فعادت الأغنية الوطنية لتعبر عن حراك ثورى وسياسى، وعن أحلام المستقبل عن بناء الدولة، ولم تعد المادة الفيلمية التى تصاحب تلك الأغنيات هدفا بقدم أبوتريكة أو برأس عمرو زكى، ولكنها باتت مصحوبة بصورة جموع المصريين فى ميدان التحرير والمنشية، أو بلقطات لصور شهداء، سقطوا من أجل نداء الحرية.. فتعود الروح الوطنية المصرية (كما قال الزميل إبراهيم عيسى) لتمزج بين شهداء تحرير الأرض فى عام 1973 وبين شهداء تحرير الوطن فى عام 2011..