دُقى بكَعْبِ حذائكِ أَيقونَةَ الكون تهبطُ إليك الطيورُ
عزة كامل
آخر تحديث:
السبت 17 مارس 2012 - 9:20 ص
بتوقيت القاهرة
تدور عقارب الساعة، تنظر إليها، تشاهد بندولها يحرك أقدار نساء مصر، تشاهدهن وهن يجرجرن خلفهن قصيدة مجنونة تملأ أجسامهن رهبة عميقة، فتتلاقى نفوسهن تسد هاجس الظلمات وتمنع انطباق الهدْبِ.
مع الأرق، تفتح كتاب الذاكرة بسرعة ترى ما ترى دون التباس، أول مظاهرة نسائية فى 16 مارس 1919 احتجاجا على المذابح الوحشية التى قابل بها البريطانيون مظاهرات الشعب السابقة والتنكيل بهم، يسقط فى نيران المعركة الوطنية أول شهيدة من النساء فى مظاهرة 10 ابريل 1919 وهى شفيقة بنت محمد التى صارعتها حراب الانجليز وبنادقهم أثناء اعتدائهم الوحشى على الشعب الثائر رجالا ونساء، يحتشد الآلاف من الرجال والنساء لتشيع جنازة شفيقة، تتعالى الهتافات وتزأر الحناجر، تحاول قوات الاحتلال تفريق الجنازة بالقوة، فتسقط أربع شهيدات أخريات، هن عائشة بنت عمر، وفهيمة رياض، وحميدة بنت خليل، ونجية بنت إسماعيل.
توالت الذكريات وطرق سمعها وقع حركة صاخبة حولها، فلاح وجه عرفت فيه وجه استر فهمى ويصا عام 1922 وهى تحمل بيدها خطاباتها الجريئة التى بادلتها مع اللورد اللنبى المستشار السامى البريطانى فى مصر والتى تضمنت مطالب المصريين والمصريات جميعا وهى عودة سعد زغلول من المنفى واستقلال مصر والإفراج عن المعتقلين السياسيين، تمر السنوات وتظهر استر مرة أخرى فى 1928 تجفف دمعة حارة من على خدها نتيجة لخيبة الأمل التى أصابتها فى موقف الأحزاب والساسة من قضية المرأة والذين عارضوا مشاركة المرأة فى العمل السياسى.
يأتيها وجه هدى شعراوى الهادئ الذى يخفى وراءه عزيمة لا تلين وهى واقفة بين الجموع عام 1924 تقرأ البيان الذى أصدرته اللجنة التحضيرية للسيدات الوفديات والاتحاد النسائى المصرى يتضمن المطالب الآتية:
مساواة الجنسين فى التعليم، تعديل قانون الانتخاب باشتراك النساء مع الرجال فى حق الانتخاب، إصلاح قوانين الزواج وذلك بسن قانون يمنع تعدد الزوجات إلا للضرورة كأن تكون الزوجة عقيما أو مريضة، سن قانون يلزم المطلق ألا يطلق زوجته إلا أمام القاضى الشرعى.
أخذتها إغفاءة صغيرة وعندما فتحت عينيها أبصرت من بعيد فاطمة اليوسف تقف شامخة بين أعداد مجلتها روز اليوسف التى أصدرتها فى أكتوبر 1925 والتى تصدرت بمرور الوقت قائمة المجلات المصرية.
وها هى منيرة ثابت أول محامية فى المحاكم المختلطة تقف مرتدية ثوب العدالة الشهير وهى تحمل فى يدها مجلة الأمل الصادرة فى عام 1925، وهى الصحيفة التى أطلق عليها صحيفة الدفاع عن حقوق المرأة، غمزت منيرة ثابت عميدة الصحفيات بإحدى عينيها ورحلت وتركت طيف ابتسامتها حاضرا.
●●●
وبقلب قرمزى كالياقوت وقفت «فاطمة رشدى» « سارة برنارد الشرق» عام 1926 على المسرح تقدم مشهدا من غادة الكاميليا التى أنتجتها فرقتها المسرحية وتلى ذلك مشهد سينمائى من فيلم الزواج الذى قامت بإنتاجه والتمثيل فيه وتناول مشكلة بيت الطاعة، تمر أمامها رائدات السينما المصرية اللاتى شاركن فى النهوض بها من أمثال: عزيزة أمير، آسيا، بهيجة حافظ، فاطمة رشدى، آسيا داغر.
تعيد عقارب ساعة اليد إلى الوراء فتظهر لها فاطمة راشد مؤسسة الحزب النسائى المصرى 1942وهى تقرأ برنامج الحزب: مساواة المرأة بالرجل فى الحقوق الاجتماعية والسياسية وتوسيع فرص العمل أمام الفتيات فى الوظائف العامة، منع تعدد الزوجات وتقييد حق الطلاق.
ترنو إلى الفضاء الفسيح تبصر عايدة فهمى أول عاملة عام 1946 تصبح عضوة مجلس إدارة نقابة عمالية.
تقلبت بين الأزمان وداعبت الأوراق الصفراء القديمة وهى ترهف السمع إلى ما وراء هدير الصمت فيبرز وجه لطيفة الزيات بكل عنفوانه مؤكدا كونها فى طليعة مناضلى اليسار والحركة الوطنية الديمقراطية. تقف لطيفة الزيات فى وسط حرم الجامعة وهى تحرق صورة الملك فاروق أثناء المظاهرات العمالية والطلابية التى قادتها لجنة الطلبة والعمال عام 1946.. وكانت لطيفة إحدى قياداتها ضد فاشية وديكتاتورية حكومة إسماعيل صدقى رئيس اتحاد الصناعات والمقرب من القصر.
●●●
إحساس بالزهو يقفز منها، فها هى إنجى أفلاطون عام 1949 تجلس أمام لوحاتها فى إحدى يديها فرشاة الألوان وفى اليد الأخرى كتابها (نحن النساء المصريات)، تبتسم إنجى لها وتفتح الكتاب وتقرأ المبادئ الرئيسية لتحرير المرأة المصرية : تجريم تعدد الزوجات تجريما تاما، تقييد حق الرجل المطلق فى الطلاق والمساواة بين الزوجين فى حق الطلاق، تحريم الزنى تحريما تاما على الزوجين والمساواة فى العقوبات بينهما، تجريم ضرب الزوجة وإلغاء نظام الطاعة، نشر التعليم بين النساء وتشجيع التعليم العام، ضمان حق المرأة فى العمل، إنشاء دور لحضانة الأطفال، المساواة بين الجنسين فى الوظائف والعمل والأجور والضمانات الاجتماعية، تقرير حق المشتغلات الحوامل فى إجازة مدفوعة الأجر، الاعتراف للمرأة بالحقوق السياسية كاملة بدون قيد أو شرط.
يقفز أمام وجهها حشود العسكر ويمر شريط الذاكرة بسرعة فترى البكباشية 1952يقيدون الحياة السياسية ويلغون دستور 1923 ويلغون الأحزاب، يصادرون الصحف ويعتقلون القوى الوطنية التى كافحت ضد الاحتلال الانجليزى ويتم اعتقال وتعذيب كل من وقف ضد عسكرة البلاد.
تخفى عينيها بيديها وتصم أذنيها لا تريد أن ترى المشهد المأساوى لإعدام «مصطفى الخميسى»، و«محمد البقرى» عاملى النسيج فى كفر الدوار اللذين تم إعدامهما على يد ضباط يوليو بعد ثلاثة أسابيع من قيام حركة البكباشية وحصار المصانع بالدبابات وإطلاق نيران المدافع التى حصدت زوجات وأسر العمال لا لجرم ارتكبوه إلا مطالبتهم بحقهم فى تكوين نقابة مستقلة وزيادة فى الأجور.
تكر الأيام وتستشعر الما خفيفا فى يدها يجعلها تتنهد، لكن ابتسامة سيزا النبراوى العذبة عام 1953 تطمئنها بعد انتخابها نائبة لرئيسة الاتحاد النسائى الديمقراطى العالمى الذى وقف مع قضايا التحرر الوطنى ونصرة الشعوب الضعيفة.
وها هى درية شفيق بنت النيل 1948 تأتى بكامل أناقتها وابتسامتها الساحرة تتحدث إلى عضوات اتحاد بنت النيل وتؤكد على تعديل القوانين من أجل دعم مكانة المرأة فى المجتمع ومنحها حقوقها الاجتماعية والسياسية وتواصل نضالها وتضرب عن الطعام فى عام 1954 لاعتراضها على تشكيل مجلس دستورى لمناقشة إصدار دستور جديد وترفض أن يحكمها دستور لم تشارك المرأة فى إعداده وتقف بجانب درية المعتصمات معها راجية حمزة، فتحية الفلكى، بهيجة البكرى، منيرة حسنى، سعاد فهمى، أمانى فريد، هيام عبدالعزيز، تأتى ريح مباغتة فتكسر الإيقاع وتذبح سعادتها فها هى درية شفيق أمامها مرة أخرى عام 1957 تضرب عن الطعام معلنة احتجاجها على تصفية التنظيمات الأهلية وتطالب بانسحاب إسرائيل من فلسطين فما كان من نظام العسكر أن تم تحديد إقامتها فى منزلها ونفيت من الحياة العامة.
●●●
ها هى تشرد فى خيالها، تندى مقلتيها وعينيها الغائمتان تنبض بانكسار، إغماضة الليل توخز صمت حزنها، تمشى صامتة تعبر ليلا ثقيلا وجسرا عتيقا جف الماء من تحته، كانت تهجس فى صدرها، تسأل: هل للغصن المنسى بحة؟، هل للأهداب المنزوعة ظل؟، هل للبحر الساكن دوار؟، يومض فى عينيها وهج غامض تتذكر من حولها، رفقائها. يرتجف الليل فى عيونهم والسلاسل والقصائد، الشارع مرتجف بالخديعة والخسة كلما ضاقوا بالغدر طوقهم مفردا يخلع عنهم رداء السماء، ويكشف عورة الصواعق، تسقط فى ثورة 25 يناير 2011 شهيدات مصر، تشاهد أميرة محمد إسماعيل ومريم مكرم نظير يطلق عليهما النار فى رأسيهما، وفى الإسكندرية تسقط هدى محمد السيد شهيدة الإسكندرية بعد استهداف رأسها بطلق نارى أيضا، وتنضم إليهن سالى زهران وأخريات كثيرات.
الريح تدور ككرة النار كأمواج تلتف على نفسها والنساء يصممن على استرداد حريتهن فقد أبين أن يكن مسوخا أو سبايا، لكن الجور والقمع الغامر يتعقبهن فيتم إجراء كشف العذرية عليهن فى 9 مارس 2011 تتابع الصور تلو الصور باهتة محملة بالظلال المضطربة وترى مشهد سحل الفتاة المصرية فى 19 ديسمبر 2011 وتعريتها وتهديد الأخريات وتقديمهن للمحاكم العسكرية، لكن فى اليوم التالى تندفع نساء مصر ينطلقن يلتحمن مع آلاف من الرجال فى مسيرة (الحرائر) احتجاجا على موقف العسكر من كل المتظاهرات ويهتفن ويغضبن مثل خشخشة أوراق شجر تنتفض أمام الريح مثل حزمة من الضوء تتمايل وتترنح، وفى 8 مارس 2012 تخرج التحالفات النسوية والحركات الثورية برجالها ونسائها تحت شعار( نساء مع الثورة، صوت المرأة ثورة) ليجوبوا شوارع مصر وينتهى بهم المطاف أمام البرلمان، ويعلنون مطالبهم 50% تمثيلا للنساء فى الجمعية التأسيسية للدستور والحفاظ على كل المكتسبات التى حصلت عليها المرأة قبل الثورة.
كان أزيز الريح يسلسل أجراسه. فمن الريح يأتى الخراب، ومن الغدر يأتى الضباب يلف الأجساد النحيلة، يغلق شعاع النجمة الوحيدة، يطمس العشب، ويجر الماء للطرق البعيدة ويبرز وجه (سميرة إبراهيم ) الغاضب وهى تهتف ( يسقط يسقط حكم العسكر) بعد أن قضت المحكمة العسكرية ببراءة المجند الطبيب احمد عادل من تهمة قيامه بإجراء كشف العذرية قبل أيام قليلة بالاحتفال بيوم المرأة المصرية 16 مارس،.. وتستمر المسيرة.. تستمر المسيرة.