إذا كنا متدينين.. فلماذا متخلفون؟
معتز بالله عبد الفتاح
آخر تحديث:
الجمعة 17 أبريل 2009 - 4:15 م
بتوقيت القاهرة
لا أحب الكتابة فى أمور الدين رغما عن دأبى فى القراءة عنها وذلك خوفا من الخطأ فى أمر جلل وإجلالا للمكانة العظيمة التى يشغلها علماء أفاضل كرسوا حياتهم لدراسة شئونه والتباحث حوله. ولكننى أواجه معضلة أخرى وهى أن النموذج التفسيرى لأسباب تخلفنا سيختل بشدة إن لم نناقش الدور الذى لم يلعبه فقهاؤنا تاريخيا ونذوق نحن وبال تقاعسهم حتى الآن.
وسبب هذا المقال المباشر هو عدد من الرسائل التى علقت على مقال سابق أشرت فيه لأن الدول المسلمة غير العربية حققت نجاحات ملحوظة على صعيد التحول الديمقراطى أكثر من الدول العربية. وكان أحد الردود هو أننى «أخطأت خطأ شرعيا، لأننى جعلت الديمقراطية معيارا للحكم على الدول المسلمة، فى حين أن الديمقراطية هى خروج عن أصل ثابت من أصول الشريعة الإسلامية... وتقليد للغرب الذى لا يريد للمسلمين أن يتبنوا الشورى التى أمرنا بها الله.»
أعتقد أن هناك خطأ فى الاستدلال مصدره خطأ فى الإبلاغ. فالله سبحانه وتعالى لم يبلغنا فى كتابه العزيز وصفات جاهزة فى أمور السياسة، عكس ما فعل فى أمور أخرى مثل تفاصيل الميراث وصلاة الخوف والطلاق، ولكنه أعطانا إشارات واضحة كان على فقهائنا أن يبنوا عليها أطرا نظرية تأخذ هذه الإشارات من إطار المبادئ والتوجيهات العامة إلى نظريات محكمة تكون مقدمة لبناء مؤسسات راسخة تقوم بمهام الحكم.
فمثلا قبل أن تبنى مصانع السيارات كان لا بد من وجود «الفكرة» ثم التصميم النظرى على الورق ودراسات الجدوى ثم بدء التجريب ثم التوسع التجارى فيها. ولعل الله قد أعطانا الفكرة بأنه «أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس» ولكن كان على العقل المسلم أن يترجم هذه الإشارة إلى منافع الحديد إلى منتجات تامة الصنع بعد مراحل من التنظير والتصميم وصولا إلى التصنيع.
لكن ما حدث أن غيرنا فقه عنا وسبقنا إلى ما كنا نحن أولى به، فسيارات العالم تجوب شوارعنا ونحن نتنافس على شرائها دون أن يكون للمسلمين دور ملحوظ لا فى التصميم أو التنفيذ، ومع ذلك هذا لا يعنى أن هذه السيارات حرام لأننا لم نخترعها.
والأمر ليس بعيدا عن ذلك فى شأن الديمقراطية. فالقرآن الكريم وممارسات الرسول العظيم قدمت لنا إشارات مهمة ومبادئ سامية كان ينبغى للعقل الفقهى المسلم أن ينشغل بها تنظيرا وتأسيسا حتى تتحول إلى واقع نعيشه.
ولكن المعضلة أن سبقنا غيرنا إلى ما كنا نحن أولى به. ولهذا فأنا أعتقد أن فقهاءنا السابقين واللاحقين قد خذلونا لأنهم لم يقوموا بواجبهم الكافى فى الاجتهاد والتأسيس لنظام سياسى إسلامى قادر على محاربة الاستبداد والفساد. وهو ما قرره الشيخ محمد الغزالى فى كتابه «مشكلات فى طريق الدعوة الإسلامية» بقوله: «ولا بد من الاعتراف ابتداء بأن فقه العبادات، وجوانب من فقه المعاملات اتسع عندنا اتساعا أكثر من اللازم، وأن الاستبحار التشريعى فى أمور الطهارة والصلاة والحج والزكاة وما إلى ذلك كان أكثر مما يطيقه الفرد المسلم أو المجتمع المسلم، وقليل من هذا كان يكفى الناس... لكن لا شك أن فى الأمة تخلفا فى سياسة الحكم وسياسة المال.»
صدق الشيخ الغزالى، وبنفس الدرجة من الصراحة أقول، لولا أننا استوردنا من الغرب بعض آليات إقرار موازنة الدولة والرقابة عليها لكنا نعيش زمن ملوك المسلمين الذين نسميهم مجاملة خلفاء حيث لا انفصال بين ميزانيتهم الشخصية وميزانية بيت المال. ولكان الواحد منا يقف عند قصورهم ينتظر عطاياهم.
ولولا أننا اضطررنا أن نستورد فكرة الأحزاب السياسية والبرلمانات المنتخبة والصحافة الحرة لكنا جميعا، إلا الإمعات، ننتظر أن يقام علينا الحد بحكم الترويج للفتنة وتأليب الرأى العام.
إن الفقهاء المسلمين تاريخيا لم يجدوا غضاضة فى قبول فكرة أن الشورى واجبة (أى لا بد أن يستشير من بيده الأمر) لكنها ليست ملزمة (أى أن من يستشير ليس ملزما برأى أهل الشورى)، وكأن على رئيس الجمهورية أن يستشير مجلسى الشعب والشورى واللذين يقدمان له قائمة من البدائل المحتملة ولرئيس الدولة أن يختار أحد هذه البدائل أو أن يتجاهلها جميعا، المهم أنه استشارهما حتى لو تجاهل ما انتهيا إليه.
حتى إننى سعدت سعادة بالغة، أعقبها إحباط كبير، بعد أن قرأت للشيخ القرضاوى استشهاده بكلام الفقيه ابن عابدين عن الشورى والذى يؤكد فيه أن الشورى ليست فقط واجبة ولكن ملزمة أيضا. ولكن مصدر إحباطى هو أننى حينما حاولت أن أعرف أكثر عن ابن عابدين اكتشفت أنه من المتأخرين، عاش فى القرن التاسع عشر أى أنه كان فى نفس فترة رفاعة الطهطاوى والذى كان يحكى لنا عن بنية ومؤسسات الديمقراطية الفرنسية ودور البرلمان فى الرقابة والتشريع ونحن لم نزل نتداول مسألة إلزامية الشورى.
وعليه فإن أمتنا احتاجت حوالى 12 قرنا حتى يكتشف أحد فقهائها أن الشورى ملزمة، وهو اكتشاف لم يتبعه تنظير وتأسيس، فلم يزل أغلب الفقهاء أميل إلى الرأى القديم حتى وإن كانوا على انحصار، كما احتاجت الأمة حوالى قرنا آخر كى يعرف فقهاؤنا أن الديمقراطية مقبولة إسلاميا.
وللحق فقد سبقهم فى هذا المفكرون الليبراليون (العلمانيون) الذين درسوا فى الغرب أو قرأوا عنه باستفاضة، ومع ذلك لم ينجح هؤلاء أو أولئك بعد فى أن يجعلوها أولوية على أجندة العرب. فللدعاة والفقهاء أجندة خاصة للغاية تركز على الرقائق والعبادات وتاريخ الفتوح وغيرها من الأمور المهمة لكنها بعيدة كل البعد عن تبصير الناس بأهمية بناء نموذج سياسى يهاجم الاستبداد ويضمن للمواطنين حقوقهم السياسية.
وقد حاولت فى إحدى الدراسات أن أرصد أجندة العلماء والدعاة المسلمين العرب للتعرف على القضايا التى يرونها أولى بالتقديم، فتبين لى أن هناك فقط 15 شريطا مسجلا يهاجم على نحو مباشر الديكتاتورية فى العالمين العربى والإسلامى من قرابة 7800 شريط شملتها العينة آنذاك (أى حوالى شريطين من كل ألف شريط)، وبالتالى ليس مستغربا لماذا يجمع الإنسان العربى بين التدين الشكلى والتخلف البنيوى طالما أنه يظل حبيس هذا النمط من الرسائل الاتصالية التى تبعده عن فهم ومقاومة جوهر الاستبداد الذى يعيشه ويخلق عنده استلابا حضاريا (أى شعور بالعجز عن تغيير واقعه).
نحن لسنا متخلفين بسبب ديننا، وإنما تخلفنا يأتى رغما عن سمو مبادئه، وبسبب عدم قدرة المشتغلين بأمور الفقه من أن يمتلكوا القدرة على الخيال غير المتصادم مع عقائد الدين وأخلاقياته. فلم يقدم الفقهاء المسلمون نظريات خمس لا يقوم نظام سياسى رشيد إلا بها: فلا توجد نظرية فى التداول السلمى للسلطة، وإنما يظل الحاكم يحكم إلى آخر يوم فى حياته وكأن هذا الأصل فى الشريعة، ولم يقدموا نظرية فى المعارضة السلمية تتجاوز فكرة أن المعارضة تعنى إثارة الفتنة.
ولم يقدموا نظرية فى تعدد مراكز صنع القرار تضع قيودا على استبداد المستبد، ولم يطوروا نظرية فى التمثيل السياسى تضمن للجميع المشاركة السياسية بغض النظر عن الدين والنوع، ولم يقدموا نظرية فى الحقوق والحريات تجعل الجميع سواسية أمام القانون. أما وقد سبقنا غيرنا، ورفضنا أن نلحق بهم، فلا غرابة أننا متخلفون حتى وإن بدت علينا مظاهر التدين الزائف.