الكتاب والحكمة
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 17 أبريل 2023 - 7:00 م
بتوقيت القاهرة
لا تخطئ عين المتدبر فى آيات الذكر الحكيم؛ تلازما لافتا وبليغ الدلالة، ما بين لفظى؛ «الكتاب»،و«الحكمة»، فى مواضع قرآنية عديدة. ففى حديثه عن اصطفائه نبيه المعصوم، فى الآية الحادية والخمسين بعد المائة من سورة البقرة، يقول الحق، سبحانه وتعالى: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُوعَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ». كما يقول فى الآية الثامنة والأربعين من سورة أل عمران: «ويُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ». وفى الآية الثالثة عشرة بعد المائة من سورة النساء: «وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيما». وفى مخطابته نساء النبى صلى الله عليه وسلم، يقول، جل وعلا، فى الآية الرابعة والثلاثين من سورة الأحزاب: «وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ».
لقد توافق جمهور المفسرين والتابعين، على أن المولى، عز وجل، يعنى بلفظى «الكتاب»، أو «الآيات»، القرآن الكريم. وأن المراد من «الحكمة»، هو السنة الظَاهرة فى أفعال النبى، وأَقواله، وأَحواله، وإِقرارِه صلى الله عليه وسلم. كما أشار إلى ذلك، الإِمام الشاِفعى، رضى الله عنه، فى ثنايا مؤلفاته. ولقد سميت السنة النَبوية بالحكمة؛ لأَن الأخيرة تشتمل على سداد القول، وصواب الفعل، وإيقاع ذلك فى مواقعه، ووضعه فى مواضعه اللائقة به. ولا مراء فى أَن أقواله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وأحواله، وإقراره، لهى، فى مجملها، عين الحكمة.
لما كانت حياته وسيرته صلى الله عليه وسلم، تعكس تطبيقا عمليا لنصوص وأحكام القرآن الكريم، فقد غدت السنة النبوية مفتاحا مهما لفهم وتأويل كتاب الله المُعجز. ففى وصفها سمت النبى الخاتم، قالت أم المؤمنين، السيدة عائشة، رضى الله عنها: «كان خلقه القرآن»، وفى رواية أخرى: «كان قرآنا يمشى على الأرض». وعند الوقوف على أسباب نزول، آيات عديدة، يبدو، جليا، الارتباط الوثيق ما بين نزول العديد من الآيات القرآنية، وبعض أحداث ووقائع السيرة النبوية. ومن ذلك ما دار بين النبى صلى الله عليه وسلم ووفد نصارى نجران، وما أعقبه من نزول آية المباهلة. كذلك، يشتمل القرآن الكريم على آيات عديدة، لم يتم ذكرالدلالة فيها صراحة، وإنما حددتها وفصلتها السنة النبوية. من ذلك على سبيل المثال، وليس الحصر، قوله عز وجل، فى الآية الخامسة والسبعين بعد المائة الثانية من سورة البقرة: «وأحل الله البيع وحرّم الربا». فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذى بيّن البيوع المحللة وتلك المحرمة. كما أوضح الربا وصنوفه، فى السنة النبوية المطهرة.
استدل كثير من العلماء المحققين بقوله تعالى: «وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»، على أَن السنة نزلت على النبى بالوحى من لدن ربه. كما دل على ذلك أَيضا قوله تعالى، فى مستهل سورة النجم: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى». أَى: وما ينطق الرسول بالقرآن والحديث عن الهوى، «إِنْ هُوَ» أَى: ما نٌطقه بذلك «إِلَّا وَحىٌ يُوحَى». يوحيه الله تعالى إليه، بنوع من أنواع الوحى. وقال، تعالى، أيضا فى الآية الرابعة والأربعين من سورة النحل: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ».
وروى، أبو داود، والترمذى، عن، المقدام، رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «ألَا إنّى أوتيتُ الكِتابَ، وفى رواية أخرى «القرآن»، ومثلَهُ معهُ». ومعنى «ومثله معه»: أن الله أعطاه وحيا آخر، وهو السنة، التى تفسر القرآن، وتبين معناه. حيث أوحى الله إليه القرآن والسنة، التى تتضمن الأحاديث الثابتة عن النبى، فيما يتعلق بالصلاة والزكاة، والصيام، والحج، والمعاملات، وغير ذلك. وروى، البيهقى، فى «المدخل»، بإسناده عن، حسان بن عطية، أنه قال: «كان، جبرِيل، عليه السلام، ينزِل على النبى بالسنَة، كما ينزِل عليه بِالقرآن؛ يعلمه إِياها كما يعلمه القرآن». واستدل الراسخون فى العلم، على ذلك أَيضا، بِما ورد فى الصحيحين وغيرِهما عن، أَبِى سعيد الخدرِى، رضى الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن ممَّا أَخَاف عَلَيْكُمْ بعْدى ما يفْتَح عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا». حيث ارتأوا فى نص ِهذا الحديث، دليلا على أَن السنة النبوية منزِلة بالوحى من عند الله تعالى.
تتلاقى كوكبة من أولى العلم، فى أن الوحى نزل على النبى صلى الله عليه وسلم، فى صور ثلاث: أولاها، القرآن الكريم: وهو الذى جعله الله معجزة عظيمة دائمة لرسوله، لفظا ومعنى، لتبيان الأحكام والتعاليم. فذلكم كلام الله، الذى وصفه، سبحانه وتعالى، فى الآية الثانية والأربعين من سورة فصلت، بأنه «لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد». وثانيتها، الأحاديث القدسية: فهى من كلام الله عز وجل، أوحاها لنبيه ﷺ، معنى ولفظا، لكنها ليست من القرآن. وفى هذا، يقول الزرقانى، رحمه الله: «الحديث القدسى هو قول الرسول، حاكيا عن ربه. فهو كلام الله تعالى، غير أنه ليست فيه خصائص القرآن، التى تميز بها عن كل ما سواه». وأما الصورة الثالثة، فهى الأحاديث النبوية: وهى من الله، وحيا ومعنى، لكنها من كلام النبى ﷺ لفظا، وليست من كلام الله.
اقتضت المشيئة الإلهية، ألا يكون للحديث القدسى أو النبوى، نصيب من الخصائص، التى تفرد بها القرآن الكريم؛ من الإعجاز، والتعبد به، ولزوم المحافظة على تلاوته، بلفظه، وعدم مسه وقراءته إلا على طهارة، ونحو ذلك. وتكمن الحكمة الإلهية من ذلك، فى أن الإعجاز منوط بألفاظ القرآن. فلو أبيح أداؤه بالمعنى، لتلاشى إعجازه، وكان مظنة للتحريف، والتبديل، واختلاف الناس حول أصل التشريع وأسباب النزول. أما الأحاديث القدسية والنبوية، فليست ألفاظها مناط إعجاز. لذا، أباح الله روايتها بالمعنى، ولم يمنحها تلك الخصائص والقداسة، التى اختص بها القرآن الكريم، تخفيفا على الأمة، ورعاية لمصالح الخلق فى حالى المنح والمنع.
فى محكم التنزيل، سمَى، المولى، تجلت حكمته، السنة النبوِية بِـ«الميزان». حيث قال، عز من قائل، فى الآية السابعة عشرة من سورة الشورى: «اللهُ الَّذِى أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحق والمِيزان». والميزان المقرون بالكتاب ههنا، هو الحكمة المحمدية والسنة النبوية. وقد سميت السنة المطهرة، «ميزانا»،لأَنها ميزان الأَقوال، والأَفعال، والأَحوال. بحيث يتعين على كل مسلم، أَن يعرِض أَقواله، وأَفعاله، وأَحواله، على السنة الشريفة. فما وافق ذلك الميزان، فهو صحيح ورجيح، ومقبول، ونجيح. وما خالفه، فهو قبيح ومردود على صاحبه. وفى هذا، يقول المولى، عز وجل، فى الآية السادسة والثلاثين من سورة الأحزاب: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالا مُبِينا». وفى الآية الحادية والعشرين من سورة أل عمران: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويغفر لكم ذنوبكم». وفى الآية السابعة من سورة الحشر: «وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا».
وجاء فى حديث عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «تركتُ فيكم أمرين لن تضلُّوا بعدهما: كتابَ الله تعالى، وسُنَّةَ نبيِّه َصلى الله عليه وسلم». وفى حديث، أبى داوود والترمذى، يقول نبى الرحمة: «عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاء المهديِّين الراشِدين، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجِذ». وعن أبن ماجه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «خير الحَديثِ كِتابُ الله، وخَير الهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ». وروى الإمام، مسلم، عن عائشة، رضى الله عنها، أَن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». وفى حديث، أنس بن مالك، رضى الله عنه، يقول الرسول المجتبى: «مَنْ رَغِبَ عن سُنَّتى، فلَيسَ منِّى».