الخطوط الحمراء لأى بلد تصوغها اعتبارات أمنه القومى.
عندما تضيع فكل انكشاف محتمل وكل انهيار وارد.
السؤال الأكثر خطورة الآن: هل تتورط مصر فى أى تحالفات عسكرية يجرى الترويج لها على نطاق واسع؟
هناك كلام كثير عن «ناتو عربى» واصطفافات مذهبية فى هذا الحلف.
وهناك كلام كثير آخر عن ترتيبات محتملة لحقائق القوة فى الإقليم والتنازع عليه وفق مقترحات جديدة يحملها الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» إلى قمة الرياض، التى تعقد بعد أيام مع عدد من قادة الدول العربية والإسلامية.
باليقين فإن هناك شىء ما لم تتضح تفاصيله وأسراره يطبخ فى الأروقة الدبلوماسية والاستخباراتية قبل زيارته إلى السعودية وإسرائيل.
بتوقيت الزيارة فإن على رأس أهدافها تخفيض حدة الأزمات الداخلية التى تحاصر «ترامب» وتشكك فى أهليته لرئاسة الولايات المتحدة، وكان آخرها تسريبات تحدثت عن أنه أمد موسكو بمعلومات سرية قد تكشف المصادر التى أمدته بها.
الهروب إلى الإقليم حقيقة لا يمكن دحضها وخطورة أفكاره يستحيل نفيها.
أين نحن من ذلك كله؟
السؤال بصياغات متعددة يتردد صداه فى الإقليم كله.
الموقف المصرى حاسم ـ هكذا تتحدث حقائق التاريخ.
إذا مانعت فلا حلف عسكرى ممكن، لا «ناتو عربى» ولا اصطفاف مذهبى.
فى الخمسينيات سقط «حلف بغداد» بسبب المعارضة المصرية تحت زعامة «جمال عبدالناصر» لمشروع ملء الفراغ، الذى تبنته الإدارة الأمريكية بعد انحسار النفوذين البريطانى والفرنسى إثر حرب السويس.
لم يكتب لهذا الحلف أى نجاح لأن مصر قالت: «لا».
على الرغم من اختلاف العصور والتحديات فإن للموقع المصرى كلمة حاسمة فى تقرير مصير أى أحلاف عسكرية مقترحة.
مصر رمانة الميزان فى اللعبة كلها بغض النظر عن أحوالها الصعبة الحالية.
الأمريكيون يدركون تلك الحقيقة.
بذات القدر فإن كل اللاعبين الإقليميين على اختلافاتهم وتناقضاتهم يدركونها.
أين المصلحة المصرية فى الخطط الأمريكية الجديدة؟
لا توجد مصلحة واحدة فى أى تورط محتمل.
فهو صدام معلن مع إرث الوطنية المصرية فى النصف الثانى من القرن العشرين.
لإرث التاريخ سطوته على المخيلة العامة لا يمكن حذفه أو تحمل التنكر له.
من أكثر ما يعتز به أى وطنى مصرى أن بلاده رفضت سياسات الأحلاف العسكرية وتقدمت لقيادة العالم العربى بقرارها المستقل لا بما يملى عليها من مواقف وسياسات، وأنها رفضت دومًا الانخراط فى أى اصطفافات مذهبية بصراعات الإقليم.
اختلفت النظم وتناقضت لكن أيا منها لم يقع فى تلك الخطيئة.
حديث الأحلاف العسكرية يطرح سؤالا جوهريا لا فكاك منه: من العدو؟.. وأين الجبهة؟
الإجابة واضحة فى الكلام المتواتر: إيران العدو.. وسوريا الجبهة الأولى لأى عمليات عسكرية محتملة.
وهذا يفضى إلى التورط فى مستنقع الدم لحسابات تناقض أمنها القومى، فوحدة التراب السورى مسألة حياة أو موت.
إذا سقطت سوريا، أو انقسمت تهدد بالعمق المستقبل المصرى، فالأمن القومى يبدأ من الشام، كما يثبت سجل حروبها والأخطار التى تعرضت لها عبر القرون.
كما لا يمكن إنكار أن الخيار الممكن لإنهاء الأزمة السورية هو التفاوض السياسى، وأى خيار آخر يزيد المعاناة ويعمق المخاوف من تفشى الإرهاب.
وهو خيار ترجمته الرئيسية الحرب بلا هوادة مع جماعات العنف والإرهاب.
حديث الأحلاف يشكك فى فرص التسوية السياسية، التى تحفظ لسوريا وحدتها، كما جدية الحرب على الإرهاب.
التورط ينزع عن مصر أى أدوار تقدر عليها فى التوصل إلى تسوية سياسية بالنظر إلى أن سياساتها لم تتخضب بالدماء ولا حرضت على نزاعات مذهبية.
قوة مصر الكامنة ـ هنا ـ بالضبط.
الاستثمار بالسياسة أجدى وأنفع من التورط بالسلاح.
الأول ـ يخضع لاعتبارات أمنها القومى ومصالحها الاستراتيجية العليا، والثانى ـ يتجاوز كل خط أحمر.
الأخطر من ذلك استبدال إيران بإسرائيل.
ذلك تمهيد لإنهاء القضية الفلسطينية دون عودة أى أرض وفق أى مرجعية دولية.
الأرجح فى موازين القوى الحالية والحسابات الضيقة السائدة أن تفضى المقترحات الأمريكية الجديدة إلى تطبيع شامل بين الدول العربية وإسرائيل اقتصاديا وعسكريا واستراتيجيا واستخباراتيا باسم التصدى المشترك للخطر الإيرانى.
إنه السلام المجانى والاقتتال المجانى.
هكذا تصبح إسرائيل شريكا لا عدوا ويوجه السلاح إلى إيران، فترتفع حدة النزاعات والاحترابات فى الإقليم، يخسر العرب كما إيران، وتكسب إسرائيل وحدها.
هذا العام (٢٠١٧) قد يكون فاصلا فى رسم الخرائط الجديدة بعد حسم الحرب على «داعش».
احتمالات التقسيم غير مستبعدة فى سوريا والعراق، ولذلك انعكاساته على لبنان والأردن ودول عربية أخرى ومصر ليست بعيدة عن حزام الخطر.
تتحدث الآن أبحاث ودراسات غربية عن مستقبل سيناء، ومما هو مطروح نزع شريط منها لضمه إلى قطاع غزة كـ«وطن بديل» استنادًا إلى ما تشهده حاليًا من مواجهات طالت مع «أنصار بيت المقدس»، التى بايعت «داعش».
حسب رواية الرئيس الفلسطينى «محمود عباس» لشخصيات كبيرة التقاها أن الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» رفض أى فكرة من هذا النوع، فـ«لا هو ولا من اتخن منه بوسعه اتخاذ مثل هذا القرار».
بنفس الرواية نسب إلى الرئيس الأسبق «محمد مرسى» أنه قال: «إن عدد سكان غزة أقل من سكان شبرا ونستطيع أن نقدم إليهم وجبات ساخنة».
العبارة المثيرة انطوت على استعداد ما لمناقشة الملف الملغم، لكنه لم يفعل شيئا.
لا يوجد مصرى واحد يجرؤ على الاقتراب من مثل هذا المشروع.
إذا كان التنازل عن «تيران» و«صنافير» شبه مستحيل فإن التخلى عن أى جزء من سيناء مرعب.
أول جملة بأول مادة من الدستور المصرى: «جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، وهى موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شىء منها».
هذه ليست صياغات إنشائية يمكن تجاوزها، بل هى حقائق وجود فوق النظم والسياسات.
لم يكن ممكنا التنازل عن جزيرتى «تيران» و«صنافير» بالسهولة التى تصورها من وقعوا اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية.
بغضب الرأى العام جمدت الاتفاقية لأجل غير محدد.
ما الذى يمكن أن يحدث إذا ما جرى تجاوز أخطر خط أحمر مصرى فى سيناء؟
الفكرة مستحيلة تماما ونهائيا ولا يملك أحد التنازل أو المقايضة.
لماذا طرح الفكرة الآن؟
الافتراض الواقعى، أن مصر المنهكة يمكن أن تبادل بعض أراضيها بأراضٍ أخرى مقابل بعض الصفقات الاقتصادية لحل أزمة إسرائيل.
إذا لم يتحدث البلد بقوة ووضوح فسوف يتم الاستخفاف بأمنه وسيادته على أراضيه وتوريطه فى مستنقعات لا خروج منها.
عند الخطوط الحمراء لا مجال لأى تردد، أو تهاون.