فى البيت القديم غرفة داكنة، لا يصلها الكثير من نور الشمس أو دفئها، أرضها من البلاط البارد صيفا شتاء، شباكها ضيق ويطل على منور العمارة وليس على الشارع. فى الغرفة أرفف ممتدة على طول حائطين، تحمل أوانى زجاجية شفافة يظهر ما بداخلها بوضوح: الزيتون، الأخضر منه والأسود، كرات «اللبنة» المغمورة بزيت الزيتون، المكدوس، وهو حبات الباذنجان الصغيرة المفرغة والمحشوة بالجوز والفلفل الأحمر، مغمورة بالزيت هى الأخرى. هناك أيضا أوانى المربى بأنواعه، وخصوصا المشمش، أو ربما هو أكثر ما أتذكره بسبب ارتباط المشمش فى ذهنى بدمشق والبساتين من حولها.
***
أدخل الغرفة الباردة على أطراف أصابعى، أختبئ وراء مرطبان الزيتون الذى كان بطولى وقتها. ألعب مع حلقات التين الجاف المتدلية من السقف كزينة العيد، فقد أدخلت جدتى خيطا قويا فى حبات التين وجعلت منها عقدا طويلا، كان بالنسبة لى أغلى من عقد اللؤلؤ الذى كانت تتحلى به جدتى حين تستقبل الضيوف.
أسمع صوت أمى وهى تبحث عنى، تنادينى فلا أرد، داخل الغرفة أعيش قصة حبكتها فى عقلى الصغير، قصة فتاة يتيمة تهرب من بطش زوجة أبيها لتختبئ بين أشجار التين والزيتون، فتسمع عن حياتهم فى الحقل قرب بحر لازوردى، وتغنى معهم نغمات فى حب شمس المتوسط التى تسقيهم دفئا حتى موعد قطاف ثمارهم. فى الحائط المقابل أرى أوانى كبيرة شفافة أيضا تمتلئ حتى آخرها بقطع الجبنة مغمورة فى المياه المملحة، تزين بياض مربعاتها حبات السمسم الأسود، أو حبة البركة كما يسميها البعض. قرب الجبنة أوانى السمن البلدى، يصل كل سنة من مدينة حماه، المعروفة بصنع أهلها أنواعا نقية من السمن السميك يفتخرون بأنهم يأكلونه على قطعة خبز مع السكر فى الفطور.
***
فى الزاوية، رصت جدتى شوالات صغيرة فى داخلها الزعتر والسمسم، وفى أكياس أخرى خزنت البرغل والفريكة. من السقف تتدلى البامية وقرون الفلفل الأحمر الحار وحبات الباذنجان والقرع المجوفة وقد ضمت جدتى كلا منها فى خيوط وعلقتها حتى تجف. ألعب وحدى بين الأكياس، وأعد وليمة أتخيل مكوناتها، فأمامى كل ما تستخدمه جدتى فى إعداد وجبة يومية لعائلتها. أرى أمى وهى فى عمرى، تعود من المدرسة وقد فكت ضفيرتها قليلا أثناء النهار. يدخل خالى الأكبر لكنه طفل هو الآخر، ويتبعه الطفلان الباقيان. ترفع أمى غطاء القدرة فتنهرها جدتى إذ لم يستو البرغل بعد.
***
كان «بيت المونة»، كما يسمى السوريون غرفة تخزين المؤن، غرفتى المفضلة فى بيت جدتى فى دمشق، كنت أتعامل مع ذلك المكان الضيق حين أزورها وكأنه غرفة سحرية أو مغارة على بابا فيما تحتوى عليه من كنوز. وبينما ينتمى جيلى والأجيال من بعده إلى عصر نشترى فيه أوقية من الفستق أو ربع كيلو من الجبنة من البقال وقت الحاجة، كان فى بيت جدتى غرفة تضم أرطالا وأرطالا من الطيبات، بل وعلى الأغلب لم يكن أحد فى عصرها قد سمع بعد بعيار كيلو أو أقل، فقد جرت العادة على تموين كل ما تأكله العائلة خلال السنة فى بيت المونة.
«صار وقت المونة»، كنا نسمعها فى بيوت الجدات كل ربيع. أتخيل بيوت الحارة بأسقفها العالية وحدائق المنازل الداخلية، وهى تعج بسيدات العائلة المنكبات على تقطيع الفواكة لعملها مربى أو على حشو الباذنجان قبل غمره بزيت الزيتون. كان يتم تبادل مرطبانات صغيرة بين البيوت، وكان مما تبنى عليه سمعة إحداهن كسيدة بيت طريقة تنشيفها للفلفل فى الشمس أو طريقة حفظها لشراب التوت. ففى بيت المونة أيضا زجاجات من عصير الفاكهة المركز الذى يتم حفظه طوال السنة، فيمد عصير التوت المركز بالماء الباردة فى الصيف، وفى أيام الخريف كان يضاف الحليب إلى شراب اللوز، فيكاد يشعر أحدنا بالسعرات الحرارية تدخل إلى عروقه مع حلاوة الطعم.
***
«وقت المونة» تفرط أيادى النساء حبات الفول الأخضر، فهو الأنضر فى موسم حصاده، لذا فيجب أن يتم تجفيف مقدار عدة «طبخات» سوف تطهيها سيدة الدار فيما بعد. تجف أوراق الملوخية على غطاء أبيض فى أرض الحديقة. يتم تغطيس ورق العنب الطازج فى قدرة من الماء المغلى والملح والزيت لثوان سريعة قبل أن تصفى وتحفظ هى الأخرى.
بيت المونة هو «السوبر ماركت» الخاص بالعائلة، كان مصدر فخر لسيدة الدار وموضوعا تتباهى به أمام أهل زوجها. بيت المونة هو نتيجة العمل الجماعى فى العمارة أو الحارة، فكنا نسمع عن يوم الفول ويوم المربى ويوم تنظيف البرغل، وهو ما أصبح يسمى فى العالم الحديث بـ«روح الجماعة» أو «المشاريع الصغيرة» أو «خلق مساحة آمنة للمرأة». فى عصر جدتى، حين «يصير وقت المونة» يتحول البيت لخلية نحل تلعب الجدة فيها دور الملكة، فتحصل العائلة على العسل طوال السنة.
***
اليوم، أرص مرطبانات صغيرة من الزيتون الأسود والأخضر على رف المطبخ، أضع قربها إناء المكدوس وأنا أترحم على جدتى. أتأكد من أن الزعتر الذى اشتريته فيه الكثير من السماق والسمسم، ثم أطلب من والدتى وصفة مربى قشر البرتقال. أعد نفسى أننى سوف يكون لى فى المستقبل «بيت المونة» الملحق بمطبخى، وأننى سوف أسمح لطفلتى أن تدخل يديها فى الوعاء لتأكل الزيتون منه مباشرة، تماما كما فعلت أنا مرة مستغلة انشغال والدتى وجدتى بضيوف كانوا يزوروننا، فأكلت من الزيتون الأخضر حتى شبعت، وحين اكتشفت جدتى ما فعلته لم يسعها سوى أن تحملنى ضاحكة، ثم تفتخر أمام ضيوفها بأنه حتى ابنة الثلاث سنوات أحبت زيتونا أعدته الجدة.