الشخصية والمؤلف.. أسامة أنور عكاشة مثالا
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 17 مايو 2020 - 10:50 م
بتوقيت القاهرة
هذه تجربة فريدة لكنها شبه منسية بتقادم السنين فى مسيرة «أسامة أنور عكاشة»، الذى يوصف بمؤسس «الرواية التلفزيونية» بتعبير أمير القصة القصيرة «يوسف إدريس».
فى هذه التجربة، التى نشرت يوم (17) ديسمبر (2000) على صفحات جريدة «العربى»، كتب نصا تخيليا، كأنه حدث فعلا، أجرى حوارا صاخبا مع «عايدة» بطلة «زيزينيا» أحد أشهر أعماله، كأنها تتمرد عليه وتريد أن تبحث لنفسها عن مصير آخر غير الذى كتبه المؤلف.
«دخلت غاضبة.. تكاد دموعها تطفر وهى تلقى أمامى بمخطوطات سيناريو «زيزينيا».. تفضل.. هذه هى أوراقك.. مزقها.. احرقها.. المهم أن تخرجنى من سجنها.. حاولت فى صبر وهدوء أن أنهى انفعالها.. طلبت لها فنجان القهوة.. وطلبت منها أن تجلس وسألتها عن أسباب ثورتها العارمة».
«ــ ما هذه الورطة البشعة التى وضعتنى فيها؟ وأى صورة بالغة القتامة رسمتنى عليها؟ فى الفصل الأول الذى أسميته «الولى والخوجة»، قدمتنى فى شخصية البنت الأرستقراطية المدللة التى خرجت من زيجة فاشلة لتتخبط فى حياة أفشل، لا تجد ما يشغل بالها أو وقتها غير التسلى بإحاطة نفسها بالرجال المدلهين فى هواها حتى تصادف بطلك «بشر عامر عبدالظاهر».. ذلك النموذج المدهش لاختلاط الأصل المصرى بالدم الإيطالى.. فاختلطت فى شخصيته كل الأشياء.. الرومانسية بشطارة التجار «بصياعة» أبناء الطبقة الثرية بالدونجوانية، بشهامة أولاد البلد السكندرية معجونة بالميل إلى الحياة اللاهية وعدم تحمل المسئولية.. كل هذا ثم تضعه فى طريقى لأقع فى هواه وتبدأ سلسلة «مرمطتى».. السيد «بشر» يتشكك فى سلوكياتى نتيجة لعلمه بمغامراتى الطائشة قبل أن ألقاه.. فيتردد فى الزواج منى.. وحين أطالبه بأن يتقدم ليخطبنى بعد أن تصاعد القيل والقال عن علاقتنا فى مجتمع المدينة.. يهرب منى مما يشعل نار اليأس والرغبة فى الانتقام داخلى، فأوافق على الزواج من أفاق محتال يوهمنى بأنه مناضل من ثوار الحركة السرية ضد الاحتلال.. ولا أكتشف حقيقته إلا بعد أن وقعت الفأس فى الرأس وتزوجته.. وينتهى الفصل الأول وأنا أتداعى منهارة تحت وطأة الصدمة! وأنتظر أوراق الفصل الثانى وأنا أمنى نفسى بأنك ستنصفنى وتعدل لى «المايلة».. فإذا بك تزيد الطين بلة وتشعل النار حولى.. وأرى نفسى أسيرة الزوج النصاب، الذى أحال حياتى جحيما، وراح يبتزنى «يساومنى ويفرض علىّ إجرامه».. بينما يواصل السيد «بشر» صرمحته وعبثه وتنقله من زهرة إلى أخرى وكأنك تكافئه على ما سبب لى من آلام.. بل تزوجه أيضا.. وليس مرة واحدة.. بل مرتين.. وجعلتنى أواجه هذا كله ولا حيلة لى إلا الدموع والشكوى للأم والصديقة.. والمشاهدين.. وانتهزت فرصة توقفها عن الكلام للحظة ترشف فيها رشفة ماء فعاجلتها.
ــ أنت فى الدراما تمثلين موقفا متصلا بالفكرة الأساسية، وهى علاقة المصرى بالآخر.. والحوار المتصادم بين الثقافة المصرية والثقافة الوافدة.. ومن هنا رسمتك نموذجا شديد الجاذبية والطرافة.. وهو الشخصية القلقة الحائرة.. بنت شريحة بورجوازية تتطلع إلى تقليد «الخواجات»، لدرجة أننا لا نعرف لها صديقة غير الإيطالية «سيلفانا».. ومحاولة الانسلاخ هذه تسبب لها ما عقد حياتها بأكملها.. فنمط معيشة تلك الشريحة «المتخوجنة» يستتبع وجود فشل اجتماعى مصاحب له.. كانتهاء زيجتها الأولى.. ثم تعدد علاقاتها فى البحث عن تعويض.. وخلال هذه المتاهة التى تنذر بضياع كامل تأتى علاقتها ببشر، وتبدأ أزمتها الحقيقية التى تشبه كثيرا دخول «المطهر» أو قضاء فترة «العقوبة».. متمثلة فى زواجها من «أبو ليلة» الأفاق.. وهو الزواج الذى يمثل العقاب «الدرامى» على الاختيار الخاطئ.. وفى نفس الوقت يعد «فرصة» للشخصية تكتوى فيها بنيران التجربة المرة لتتبين بالتدريج، ومن خلال قسوة التجربة طريقا جديدا لحياة أخرى مختلفة.. إن «عايدة» هى أكثر شخصيات «زيزينيا» درامية.. والتغييرات التى تحدث لها عبر فصول الرواية الثلاثة تجعلها أغنى تلك الشخصيات وأعمقها.. و..
وقاطعتنى قبل أن أستطرد وأفيض..
ــ حيلك! أنا لا تهمنى اصطلاحاتك ولا شروحاتك الفنية.. فأنا لم أعد «شخصية» من ورق ابتدعتها سيادتك وسجنتها فى سطورك.. لقد انفصلت عن قلمك وأصبحت شخصية من لحم ودم.. ذات وجود مستقل عن رغبات وهواجس وعقد «مؤلفها».. أصبحت إنسانة شقية.. ولأننى لم أحصل على حريتى الكاملة وحقى فى تقرير مصيرى الذى تمسكه سيادتك بين أصابعك وتستمتع فى «سادية» واضحة بالتلاعب به.. فقد فقدت سعادتى.. ثم تعال هنا.. وأنت تنكل بى كل هذا التنكيل.. وتسبب لى كل هذه «البهدلة».. لماذا لم تجعلنى وأنا أبحث عن خلاصى.. أفكر فى «الخلع»؟
لم أتمالك نفسى من الضحك الساخر فزاد غضبها اشتعالا:
ــ ما يضحكك؟
ــ جهلك ولا مؤاخذة.. فتعديلات قانون الأحوال الشخصية التى تتيح للزوجة أن تطلق «خلعا» لم تصدر إلا منذ عام فقط.. وأحداث زيزينيا تدور فى الأربعينيات يا عزيزتى!.. صح النوم!
وجاء دورها لتضحك ساخرة:
ــ بل أنت النائم يا حضرة المؤلف.. ففى الأربعينيات كانت نزاعات الأحوال الشخصية تنظر فى المحاكم الشرعية.. وقضاتها يحكمون وفقا للشرع.. وقد علمنا أن مبدأ «الخلع» موجود فى الشريعة الإسلامية، منذ أيام النبى «عليه الصلاة والسلام».
ــ كان المبدأ موجودا ولكنه كان «مسكوتا عنه».. كان بالعربى «مجمدا».. بدليل أننا طوال عمرنا لم نسمع عن طلاق حدث بالخلع فى المحاكم الشرعية أو محاكم الأحوال الشخصية بعدها، إلا حين صدرت التعديلات الأخيرة!!
وكان ردى فيما يبدو مفحما.. فقد تحول غضب عايدة وانفعالها إلى شرود حزين مهموم.. وغامت على وجهها سحابة من كدر.. وهمست وكأنها تتحدث من غور سحيق..
ــ هل تعدنى بإنصافى فى بقية الرواية؟
ــ لا أعدك بالإنصاف فقط.. بل أعدك بأن تتحول عايدة فى الفصل الثالث إلى شخصية أخرى تماما تنتصف لنفسها ولكل معاناتها السابقة.. ستخرج من «المطهر» إنسانة جديدة تماما.. قوية.. واثقة فى نفسها.. قادرة على امتلاك خياراتها وتشكيل مصيرها.. واصبرى وسوف ترين..
وهتفت وهى تتناول آخر رشفة فى فنجان القهوة.
ــ وماذا أملك غير الصبر؟
وبينما نهضت.. وتهيأت لوداعها..
ــ سأواجهك مرة أخرى بعد الفصل الثالث.. وسأحاسبك.....».
....
هكذا دار الحوار التخيلى بين المؤلف وبطلة روايته، كأنها من لحم ودم ومشاعر، تأهبا لكتابة فصل ثالث من الرواية التلفزيونية «زيزينيا»، تملكته الفكرة الدرامية حتى باح ببعض أسرارها ذات يوم بعيد فى نص تخيلى نادر، لكنه لأسباب غير معروفة لم يكتبه.