هى فعلاً ازدواجية معايير.. فماذا نحن فاعلون؟
أمل مراد
آخر تحديث:
الجمعة 17 مايو 2024 - 7:35 م
بتوقيت القاهرة
لم نكن نحن العرب فى حاجة إلى ما يثبت أن حكومات القوى الغربية الكبرى تطبق القيم الأخلاقية والقواعد القانونية الدولية بازدواجية وانتقائية، فالقضية الفلسطينية ــ على الأقل ــ لم تتوقف أبدا عن تذكيرنا بذلك. إلا أن التباين الفج بين تعامل تلك الحكومات مع الغزويين المتتاليين لأوكرانيا وغزة ــ رغم وحشية العدوان الإسرائيلى الراهن الاستثنائية ــ ضرب فى مقتل مصداقية ادعاء تلك القوى عن محورية القيم والقانون الدولى فى سياساتها الخارجية ودفاعها عن «نظام دولى قائم على القواعد rules based international order»، فأصبحنا أمام حالة تلبس بازدواجية معايير لم يعد هناك مجال للاختلاف حولها بين عقلاء.
أما ما يستحق نقاشًا حقًا فهو كيف تؤثر تلك الازدواجية الفجة على رؤيتنا نحن للعالم والتنظيم الدولى وتعاملنا معه. هل تلقى بظلالها الداكنة على نظرتنا للقانون الدولى، خاصة الإنسانى، والمنظمات الدولية المعنية به؟ وهل حقا تعنى أن التنظيم الدولى مجرد أداة للهيمنة الغربية لا طائل من ورائها؟
أسمع وأقرأ فى نقاشاتنا العامة أصواتًا كثيرة ترد بالإيجاب على تلك الأسئلة، بصيغ متباينة من حيث البساطة والتعقيد، ومتنوعة من حيث البراءة والأغراض، ومدعومة فى كل الأحوال بشعور عميق بالغضب الممزوج بقلة الحيلة نتيجة للمشهد الدامى: فما فائدة القانون والأمم المتحدة والمواثيق الدولية إن فشلت فى إيقاف مقتلة كهذه؟
ولكنى أزعم أن هذه ردود ــ وإن بدا أن لها ما يبررها ــ ليست موضوعية ولا مفيدة، وخطرها يكمن فى كونها نبوءة ذاتية التحقيق لا يتضرر منها أكثر من المظلومين فى الدول كما فى البشر. وأزعم أن تعديلاً فى زاوية الرؤية سيرسم صورة مختلفة، قد لا تكون بالضرورة أكثر تفاؤلاً، ولكنها أكثر تعبيرًا عن الواقع وتحفيزًا على عمل يستفيد من فرصة تلوح من تحت الركام.
ضبط التوقعات
ولعل نقطة البداية فى تعديل زاوية الرؤية هى مراجعة فهمنا لطبيعة التنظيم الدولى لجعل توقعاتنا منه أكثر عقلانية. وقد اخترت تعبير عقلانية وليس واقعية عن قصد، لأن الواقعية قد تبرر الخضوع للواقع كما هو، أما العقلانية فتمكننا من ابتداع مسار لتغييره.
التنظيم الدولى international order الراهن (ويقصد به، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، الأمم المتحدة وما يحيط بها من قواعد ومؤسسات)، يجمع فى بنيانه منذ نشأته مشروعين فكريين متباينين وأحيانًا متعارضين، أحسن تحليله الأكاديمى الأمريكى G. John Ikenberry على هذا النحو الذى يقرب الصورة إلى الأذهان:
أولهما: مشروع واقعى يستند إلى رؤية تعترف بمحورية القوة وتوزيعها بين الدول فى تشكيل البيئة الدولية، وبالتالى تعطى القوى الكبرى مكانة خاصة. هدف هذا المشروع محدود، وهو تنظيم العلاقات بين «دول ذات سيادة» لضمان قدر من الاستقرار وتقليل الحاجة للجوء للحرب اعتمادًا على تفاهمات القوى الكبرى. ويعبر مجلس الأمن عن هذا المشروع بامتياز، سواء فى مهامه المقتصرة على الأمن والسلم، أو فى تشكيله التمثيلى لتوزيع القوة، أو فى تقنينه لمكانة الدول الكبرى من خلال حق الفيتو.
وثانيهما: مشروع قيمى (ليبرالى فى الكتابات الغربية)، ويستند إلى اقتناع بإمكان بناء «مجتمع community» عالمى تحكمه قيم وقواعد جامعة مستلهمة من التطلع إلى عالم أكثر تحضرًا وعدالة. هذا المشروع أكثر طموحًا فى أهدافه (احترام حقوق الإنسان، وتحقيق السلام العالمى، والتنمية الشاملة المستدامة) وأكثر توسعًا فى قواعده ومؤسساته، التى تشمل قواعد ومؤسسات القانون الدولى الإنسانى التى تعنينا هنا. هذا المكون هو الأضعف فى نسيج التنظيم الدولى، خاصة وأنه يفتقد أداة إنفاذ مستقلة عن القوى الكبرى، إلا أنه مصدر شرعيته الرئيسى، فبدونه يكون التنظيم الدولى فعلا مجرد أداة للقوى الكبرى.
ولتقريب تلك الصورة إلى الأذهان أكثر، أضرب مثلاً من علم الطبيعة (الفيزياء). فالمكون الواقعى يقابل اكتشاف وإقرار الجاذبية الأرضية والتعامل مع تبعاتها. أما المكون القيمى، فأشبه بمشاريع الطيران إلى أعلى باستخدام قواعد الطبيعة للتحايل على الجاذبية وتخطيها. الجمع المتعمد بين المكونين سمح للتنظيم الدولى الحالى بأخذ حقائق القوة فى الحسبان حتى لا يتعرض للسقوط، كما سقطت تجربة عصبة الأمم من قبل لضيق القوى الكبرى بها، ولكن دون أن يخضع لها وحدها فيفقد سبب وجوده وأساس شرعيته. هذا الجمع يعطى نظام الأمم المتحدة قدرة على البقاء رغم تغير الظروف، ولكنه أيضًا يجعله يبدو قاصرًا ومربكًا ومحبطًا فى الأزمات.
أَصِلُ من ذلك كله إلى أن العقلاء لا يجب أن يتوقعوا من التنظيم الدولى أن يلغى أو يَجُّب حقائق القوة. ولكنهم ــ خاصة المظلومين منهم ــ لديهم مصلحة وعليهم مسئولية التمسك بالقيم الجامعة والقوانين والقواعد المنبثقة عنها وبلا ازدواجية، والاستثمار الواعى فى آلياتها، ومساءلة ذوى القوة على أساسها، وهو ما يمكن أن يعوض أثر اختلال ميزان القوة ويسهم فى بناء «مجتمع دولى حقيقى». وإذا ما استكملنا التشبيه السابق، فإنهم أصحاب المصلحة والمسئولين عن الاستثمار فى تطوير مشروع الطيران لا أن يسرعوا بالكفر به عند كل تحدٍ.
ماذا نحن فاعلون؟
إذا ما طبقنا هذا الفهم على الوضع الراهن، نجد أن أنصار فلسطين فى الأمم المتحدة طلبوا من مجلس الأمن مهمة محددة هى إيقاف حرب تخوضها حكومة متطرفة، جل ضحاياها من المدنيين، بالمخالفة للمعايير والقوانين الدولية الجامعة، ودعموا مطلبهم هذا بقرار من الجمعية العامة بأغلبية الثلثين تعبر عن إرادة «المجتمع الدولى» بحق. وبالتالى فإن فشل مجلس الأمن فى إصدار قرار بوقف إطلاق النار هو مسئولية الحكومات التى عرقلته وهى الولايات المتحدة وــ بدرجة أقل ــ المملكة المتحدة وفرنسا وحدهم، لا على «المجتمع الدولى» الذى عادة ما نصب عليه جام غضبنا دون سند، وربما هروبا من مواجهة حكومات تلك القوى بشكل مباشر. وبصرف النظر عن موقفنا من الڤيتو، فإن ممارسة حكومات تلك الدول الثلاثة له على هذا النحو هو انحراف فى استخدام هذا الحق يقوض مشروع التنظيم الدولى بجناحيه.
وإذ لا توجد فى العلاقات الدولية سلطة تحاسب حكومات الدول الكبري، فإن مهمتنا ــ كدول وجماعات وأفراد متضررة من ذلك ــ هى تحميل تلك الحكومات تكلفة الانحراف فى استخدام حقها هذا، باستخدام القنوات الدبلوماسية والعلاقات الثنائية والمبادرات الشعبية. وفى حين قد تصور لنا «الواقعية» أنه لا جدوى من محاسبة القوى الكبرى، فإن «العقلانية» قادرة على رسم مسار لإيصال رسائل جدية حول تبعات سياستهم تلك مع ضبط المدى الذى يمكن الذهاب إليه لتفادى صدام لا طائل منه. تلك العقلانية هى صلب مهمة الدبلوماسية رسمية.
مهمتنا أيضًا هى الالتفات والبناء على كل عمل من داخل التنظيم الدولى ينتصر لمبادئه ويفعل آلياته، لا الاستهانة به لأنه لم ينجح وحده فى قلب موازين القوة. فدول كثيرة لا مصلحة مباشرة لها فى الصراع فى فلسطين، منها حكومات دول غربية ومن أمريكا اللاتينية، ما كان ليلومها أو يلتفت إليها أحد لو اتبعت سياسات القوى الكبرى، ولكنها انتصرت بتصويتها وخطابها وسياساتها إلى تلك المبادئ الدولية الجامعة. والمنظمات الدولية ــ الحكومية وغير الحكومية ــ ذات الصلة بالقانون الدولى الإنسانى تناضل من أجل أداء دورها المستند للقواعد الجامعة، رغم الضغوط الكبيرة التى تتعرض لها، وتتصدى فى تصريحاتها وتقاريرها لإسرائيل وداعميها.
وفى صدارة هذا المشهد دول ومجموعات تحركت أمام منظومة القضاء الدولى فى مسارات عدة ضد انتهاكات حقوق الشعب الفلسطينى، على رأسها جنوب إفريقيا بدعواها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، ونيكاراجوا بدعواها ضد ألمانيا بتهمة التواطؤ مع إسرائيل فى انتهاك القانون الدولى، والمكسيك وتشيلى باشتراكهما فى تقديم بلاغ إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق فى كل الجرائم التى تقع فى اختصاصها على أرض فلسطين، وإلى جوارهما مجموعات غير حكومية من تشيلى ومن هولندا وغيرهما قامت بنفس الشىء، وذلك استنادا إلى قرار قبول انضمام فلسطين إلى المحكمة فى ٢٠١٥، والذى شكك البعض فى جدواه فى حينه، حتى أصبح إصدار المدعى العام للمحكمة قرار اعتقال ضد مسئولين إسرائيليين هاجسًا حقيقيًا لدولة الاحتلال. وجاء قرار مصر، بوزنها فى النظامين الإقليمى والدولى، بالانضمام إلى دعوى جنوب إفريقيا ليضيف ثقلاً حقيقيًا إلى المسار القانونى للقضية الفلسطينية برمتها.
هذه التحركات هى جزء من صورة أوسع تلعب فيها وحشية إسرائيل وصمود الشعب الفلسطينى الدور الأكبر. كما أنها لا تغنى بطبيعة الحال عن عمل أصحاب القضية على امتلاك مزيد من أدوات القوة الذاتية فى إطار الشرعية الدولية. إلا أن بعض نتائج هذه التحركات المبنية على المبادئ الجامعة قد بدأت تظهر نتائجها بالفعل، وخاصة مع توسع الحركات الاحتجاجية فى الدول الغربية نفسها، ومراجعة حكومات غربية لبعض مواقفها وسياساتها، والأهم، انتقال إسرائيل إلى خانة الدول المارقة الملاحقة إلى غير رجعة.
قد يكون ذلك كله أقل من المأمول وأبطأ من المقبول إذا ما قيس بالتضحيات التى قدمها ويقدمها الشعب الفلسطينى، وقد لا يكون من الحكمة ولا العقلانية افتراض أى حتمية فى المآل المستقبلى لتلك التحركات. إلا أن المؤكد أن بعث القضية الفلسطينية كقضية عدالة إنسانية يحمل وعدًا مزدوجًا بمنح فلسطين أدوات لتعديل الخلل الهائل فى ميزان القوة الواقعى، وبإعطاء المشروع القيمى فى نظامنا العالمى ــ أو لنقل مشروع الطيران ــ دفعة إلى الأمام.
هذه ليست لحظة نطلق فيها العنان لما فى صدورنا من إحباط وافتراض للأسوأ، وإنما هى لحظة تستحق منا كبلدان ومجتمعات وأفراد خوض تلك المعركة والمضى العقلانى فى ذلك المسار الإنسانى الجامع الذى يعتمد على كثرة سالكيه، وهى فرصة تلوح من تحت الركام لا يصح أن نكون فى مواجهتها بين المتقاعسين المتشككين.