استعارة مؤذية!
محمود محي الدين
آخر تحديث:
الأربعاء 17 يونيو 2020 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
ليست الاستعارة المقصودة فى العنوان مما يُدرس فى علم البيان والبلاغة من أنواع للاستعارة المعروفة، التى تُجمل بها العبارات باستعمال اللفظ فى غير ما وُضع له، كالاستعارة المكنية والتصريحية. «فالاستعارة المؤذية» هى التى تعانى بسببها عملية تحليل وتصميم السياسات الاقتصادية فى كثير من البلدان العربية، وتنجم عن الاكتفاء بالاعتماد الغافل على بعض مصادر مجتزأة من تقارير دولية، والنقل المسرف عن دراسات معدة فى الأصل لنصح متخذ القرار فى بلدان بعينها شديدة الاختلاف والتباين.
فعند الاستعانة بالتقارير الدولية، يتطلب الأمر مراجعتها بعد استبيان أولويات مصدريها وافتراضاتهم والتعرف على قدراتهم التحليلية. ويجب إدراك أن جانبا كبيرا من التفاصيل المهمة قد يختزل لأغراض عقد المقارنات أو بتجميع الدول فى مجموعات وشرائح وفقا للدخول، على سبيل المثال، لتبسيط تقديم المعلومات.
وقد يسهو الناقلون عن أنَّ كثيرا من توصيات هذه التقارير قد يأتى على غرار قوائم الطعام المطولة، بها بنود متنوعة بتكاليف مختلفة للاسترشاد بها وفقا للأوضاع الاجتماعية المبدئية لكل دولة وآليات عمل اقتصادها السياسى، إلى غير ذلك من اعتبارات.
أما عن استسهال الناقلين لدراسات معدة لدولة معينة، وتعليب ما جاء بها جاهزة مع عدم مناسبة محتواها، فحدث ولا حرج عن حالات انتهت بالأذى وبخذلان عموم الناس. وهذا كله يرجع إلى عدم التمحيص عند النقل عن هذه الدراسات والتبشير بتوصياتها ونتائجها وكأنها الإكسير الشافى من العلل فى كل زمان ومكان، وهى الموصوفة أصلا لحالات بعينها بشروط محددة.
ومع تصميم سياسات جديدة للتعامل مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة لجائحة كورونا تبرز ثلاثة موضوعات ذات علاقة بمواجهة الجائحة ثم التعافى منها، وترتبط بمستقبل العولمة والتمويل والديون. فقد صدرت دراسات مهمة عن مستقبل العولمة وتأثيراتها ومنها دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولى بواشنطن. وقد حدد المعهد تأثيرات العولمة فيما يأتى:
ــ توفير سلع أكثر بأسعار أقل من خلال المنافسة.
ــ توسع قطاع الأعمال خاصة لشركات التكنولوجيا والاتصالات والمعلومات.
ــ تحسين النوعية وزيادة التنوع للمعروض من السلع والخدمات.
ــ زيادة مجالات الابتكار والتطوير.
ــ التأثير المتباين على سوق العمل بين إتاحة فرص جديدة فى المجالات ذات التنافسية والمهارات العالية فى قطاع الخدمات المتقدمة، وضياع فرص عمل أخرى فى قطاعات منخفضة الإنتاجية خاصة فى صناعات تحويلية غير متطورة.
ــ تأثير سلبى محدود على عدم العدالة فى توزيع الدخول بمقياس الأجور يتراوح بين 10 فى المائة و20 فى المائة.
وتفسر الدراسة أن الجانب الأكبر من التأثير السلبى على عدالة توزيع الأجور يعزى إلى تأثير التكنولوجيا على الأنشطة ذات المهارات المحدودة باستبعادها، وعدم فاعلية السياسات المالية العامة وعدم العدالة فى إتاحة الفرص من خلال الاستثمار فى رأس المال البشرى. كما تنتقد غياب سياسات متكاملة للتشغيل ومكافحة البطالة بما فى ذلك الإجراءات المساندة للتدريب التحويلى والإنفاق على التعليم والمساعدة فى البحث عن عمل، فضلا عن قصور برامج التأمين ضد البطالة ومنح حوافز ضريبية للتشغيل والتأمين الصحى على العاملين. وتفضل الدراسة تبنى هذه السياسات بدلا من اللجوء للإجراءات الحمائية لتكلفتها التى تتجاوز منافعها المحدودة والمؤقتة.
ولمنع «الاستعارة المؤذية» فعلى قارئ مثل هذه الدراسة قبل أن ينقل عنها، خاصة إذا كان من مقدمى الاستشارات والنصائح للاقتصادات العربية، أن يدرك أن بيانات هذه الدراسة ومحل اهتمامها هو الاقتصاد الأمريكى دون سواه. وربما تنتفع بها، بضوابط محددة، بعض دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، التى تضم الاقتصادات الأعلى دخلا. أما بالنسبة للدول العربية فيجب أن يُفتح هذا الصندوق الأسود للعولمة وتأثيراتها على محاور أربعة:
ــ الأول، هو محور التجارة، وهو المحور الوحيد الذى تناولته دراسة معهد بيترسون المذكورة، مع أهمية تحليل هيكل الإنتاج فى الاقتصادات العربية لكل دولة على حدة.
ــ الثانى، هو محور تدفقات رءوس الأموال والاستثمارات الداخلة والخارجة لكل دولة، علما بأن الخارج من رءوس الأموال العربية أكبر.
ــ الثالث، هو محور انتقال العمالة وما يرتبط به من تحويلات للعاملين بالخارج إلى بلدانهم.
ــ والمحور الرابع، الذى عادة ما يهمل ربما لصعوبة قياسه، يرتبط بـ«نقل التكنولوجيا» وفرص الابتكار والتطوير واكتساب المعارف والبحث العلمى والحصول على براءات الاختراع والملكية الفكرية وحمايتها وضمان عوائدها.
فيجدر بالمنادين بالعولمة والمتصدين لها وكذلك جبهات المصلحين لمساراتها تقديم الأدلة والبراهين على المكاسب والخسائر، قبل دخولهم فى مباريات التوصية بالانفتاح والإغلاق، أو المناداة بإجراءات لتحرير أو كبح حركة التجارة والاستثمار والعمالة والمعرفة. فأذى الاستعارة هنا قد يطول مُصدرا والعاملين معه، أو يضر منتجا بارتفاع تكلفة الخامات والآلات المستوردة، أو يعيق استثمارا يسهم فى النمو، أو يمنع البحث عن عمل لاكتساب معيشة، أو يغيض أنهار المعرفة بسدود من الموانع والعراقيل.
ولا يقل خطورة عما سبق ما يُنقل عن دراسات للتوسع فى التمويل بزيادة العجز فى موازنات الدول وزيادة الديون. وقد يستشهد البعض بكتابات الاقتصادى بول كروجمان، الحائز جائزة نوبل فى الاقتصاد، عن التمويل بالعجز لمواجهة متطلبات الإنفاق العام، أو أعمال الاقتصادى أوليفييه بلانشارد، الرئيس الأسبق للبحوث بصندوق النقد الدولى، عن تحفيز الاستدانة مع انخفاض أسعار الفائدة. فالاستعارة المؤذية لهذه التوصيات تنتزعها من سياقها وافتراضاتها المحددة انتزاعا؛ فهى قائمة بالأساس على تحليل أوضاع الاقتصادات المتقدمة القادرة على تمويل العجز دون آثار تضخمية أو إزاحة للقطاع الإنتاجى من أسواق التمويل والائتمان. كما تتناول قدرات الدول المعنية، عالية الدخول، على الاقتراض بعملاتها الوطنية وبتكلفة اقتراض شديدة الانخفاض تيسر إحلال قروض جديدة بأسعار فائدة تقترب من الصفر محل تلك القديمة عالية التكلفة، وبدون أى مخاطر ترتبط بتغيرات سعر الصرف.
فإذا ما توافرت هذه الشروط المحددة فهنيئا للموصين بها والمستفيدين منها، إذا ما أحسن تنفيذها، أما إذا غاب شرط واحد مما سبق فليحذر المنصوحون من اضطراب اقتصاداتهم بزيادة الديون وبتراجع النمو والتشغيل تأثرا بزيادة العجز وزيادة التضخم مع التوسع فى طبع النقود وانفلات أسعار الصرف.
وحرى بالناصحين، قبل مزيد من الانغماس فى استعارات مؤذية، الاطلاع أولا على أوضاع التنمية فى العالم العربى، التى شرحها بتفصيل التقرير العربى عن التنمية المستدامة 2020. الصادر منذ أيام عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا). فقد أورد التقرير حقائق وتطورات مهمة لمؤشرات التنمية الأساسية بتحليل كمى ونوعى للبيانات. وقد أشار إلى انفراد المنطقة العربية بزيادة الفقر المدقع وتربعها على قمة عدم العدالة فى توزيع الدخل، والانخفاض النسبى لمؤشرات التعليم والرعاية الصحية، وتعرضها لمزيد من الفقر المائى ومؤثرات سلبية لتغيرات المناخ والتلوث البيئى، وعدم توازن النمو الاقتصادى وقصور شمول عوائده، وتراجع مؤشرات الحوكمة. هناك حقا استثناءات إيجابية فى بلدان عربية فى مجالات بعينها، ولكنها تظل استثناءات من أداء عام يهدد بعدم بلوغ أهداف التنمية المستدامة، بما يستوجب بذل جهود أكبر بتنسيق أشمل، لا فصل فيها بين سياسات التصدى لأزمة كورونا وتداعياتها والتعافى منها بسياسات للنمو الشامل للجميع، فالإمكانات العربية متوفرة لكنها تتطلب كفاءة فى استغلالها بما يحقق العدالة بين عموم الناس.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط