نهاية التاريخ وفقدان الثقة
محمد عبدالمنعم الشاذلي
آخر تحديث:
الجمعة 17 يونيو 2022 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
نشرت المجلة الأمريكية national interest فى عام 1989 مقالا تحت عنوان نهاية التاريخ، بقلم أستاذ العلوم السياسية الأمريكى من جذرو يابانية فرانسيس فوكوياما. صدر المقال فى وقت سادت فيه الاضطرابات فى أوروبا الشرقية وبدأت شقوق تظهر فى بنيان الاتحاد السوفيتى. لاقت المقالة ترحيبا كبيرا فى الأوساط السياسية اليمينية وفى الدوائر الأكاديمية. ثم كان سقوط الاتحاد السوفيتى فى ديسمبر من عام 1991، الأمر الذى شجع فوكوياما على التوسع فى دراسته وإصداره كتابا بذات الاسم «the end of history and the last man» صدر فى عام 1992. حقق الكتاب نجاحا كبيرا وانتشارا، ليس فى الولايات المتحدة وحدها، بل على مستوى العالم وأصبح الكتاب موضوع ندوات أكاديمية ومحاضرات وتحليلات إعلامية ومحاورات سياسية.
يدور الكتاب حول انتصار الفكر الليبرالى الديمقراطى الغربى على غيره من الأفكار السياسية وأنه وفّر الرخاء والتقدم والاستقرار للدول التى اتبعته، وأنه بتحقق هذا الانتصار فإن التفاعل الجدلى التاريخى قد انتهى ووصل إلى نهايته!
أكد فوكوياما أنه يقصد بذلك الأفكار وليس الأحداث التى ستستمر حتما فى الوقوع، لكنها لن تغير من الواقع الفكرى الذى يؤكد أن الفكر الليبرالى الديمقراطى الغربى ــ الذى أصبح قمة الهرم التاريخى ــ وصل إلى الأوج.
لا شك عندى فى أن كتاب فوكوياما وما طرحه من أفكار لقى دعما كبيرا من المؤسسات الأمريكية والغربية بشكل عام، لأنه يروج للعقيدة الغربية التى يقوم حولها التحالف الغربى، خاصة وأن نشر الكتاب تزامن مع سقوط الاتحاد السوفيتى. وهذا ما اعتبره سقوطا لفكرة الاشتراكية وأيديولوجيتها التى ظلت منذ الثورة البلشفية وقيام الاتحاد السوفيتى منذ 74 عاما، ثم اشتعال الحرب الباردة والصراع السياسى الخطر الذى يهدد الأيديولوجية الغربية. وظن الغرب أنه انتصر الانتصار النهائى ودانت الدنيا له، وبدأ فى استقطاب الدول التى كانت جزءا من الاتحاد السوفيتى والتى تدور فى فلكه أعضاء حلف وارسو إلى الاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلنطى لجعل أوروبا قارة أطلنطية (نسبة إلى الحلف) وهو ما أدى إلى الصدام الأخير مع روسيا.
• • •
رغم ما لاقاه الكتاب والأفكار التى طرحها إلا أن هذه الأفكار لم ترتكز على أرضية راسخة أو واقع ملموس. فالولايات المتحدة، عراب هذا الفكر والفارس الذى يرفع راية الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ليست هى المدينة الفاضلة التى يرفل أهلها فى النعيم بعد أن وصل التاريخ إلى نهايته؛ بل هى مجتمع تسوده كثير من الأمراض العضال منها العنصرية التى سوغت قتل داعية الحقوق المدنية مارتن لوثر كينج فى عام 1968 لأنه ذكر فى عام 1963 «لدى حلم» I have a dream بأن ينال السود فى أمريكا الحرية والمساواة. وفى عام 2020 وضع شرطى أبيض ركبته على عنق الشاب الأسود جورج فلويد وهو يصرخ إنى أختنق وينادى على أمه حتى أزهق روحه.
منذ أسابيع حمل صبى فى الثامنة عشرة من عمره سلاحه الآلى الهجومى وتوجه إلى المدرسة الابتدائية فى مدينة بولاية تكساس، وقتل 69 تلميذا وتلميذة تتراوح أعمارهم بين التاسعة والحادية عشرة، فضلا عن اثنين من المدرسة. وكان هو الحادث الثانى والعشرين منذ بداية العام للقتل الجماعى بالأسلحة النارية التى لم تسلم ولاية واحدة على مدى سنين طويلة من ضحاياها.
ومنذ أكثر من عشرين عاما، صدم الشعب الأمريكى فى يوم 11 سبتمبر الذى صار علامة تاريخية فارقة بين الشعور بالأمان فى الأوطان وبين القلق والخوف بعد سقوط برجى مركز التجارة العالمى الذى كان رمزا للهيمنة الأمريكية، وإصابة مبنى وزارة الدفاع البنتاجون بأضرار نتيجة هجوم من طائرة ثالثة، واعتراض طائرة رابعة قبل مهاجمة البيت الأبيض.
ثم كانت ثالثة الأثافى فى يناير الماضى عندما اقتحمت مجموعة من الدهماء مجلس النواب فى واشنطن بإيعاز وتحريض من رئيس الجمهورية الذى خسر الانتخابات فى محاولة لإلغائها والانقلاب على الشرعية. كل ما سبق يؤكد أن الولايات المتحدة رغم ما تقدمه من فن وإبداع وعلم وثقافة توجتها بإرسال رجال إلى القمر وإرسال مركبة فضائية تجاوزت المجموعة الشمسية إلا أنها حتما لم تصل إلى نهاية التاريخ.
• • •
فى عام 1995 نشر فوكوياما كتابا آخر رغم أنه لم يحقق نفس التوزيع لكتاب نهاية التاريخ، إلا أنه فى تقديرى الكتاب الأقيم الذى يستحق الاهتمام والدراسة وهو كتاب «الثقة والفضائل الاجتماعية ودورها فى خلق الرخاء» trust the social virtues and creation of prosperity. ويؤكد فوكوياما فى هذا الكتاب على أهمية الثقة كعنصر حيوى وفعال فى نجاح المجتمع واستقراره ورخائه.
وبقراءة هذا الكتاب وما يطرحه من فكر تدرك أهمية الثقة كمقوم أساس للتقدم والتنمية، فالإدارة تعتمد على الثقة فلا تفويض للسلطة بدون ثقة والسياسة أساسها الثقة. فالشعوب تنتخب ممثليها فى المجالس النيابية ليشرعوا ويراقبوا بالنيابة عنهم فإذا سقطت الثقة فى حمل الأمانة؛ تحول النواب إلى حاملى أختام لتمرير قرارات الحاكم ومسخت العملية التمثيلية والعملية السياسية برمتها.
الائتمان والتجارة والتعليم ثقة، وقد طالعنا فى وسائل الإعلام ظاهرة ما يسمى بالمستريح الذى يجمع الملايين من البسطاء بدعوى توظيفها ثم يستولى عليها، كما شاهدنا من فتحت مركزا للدروس لمئات التلاميذ بعيدا عن رقابة الدولة وتمشى فى حراسة البودى جاردات، وهى مظاهر من ضعف الثقة فى المنظومة الائتمانية والمنظومة التعليمية. فلا يمكن أن تنتقل الأرصدة والأموال والبضائع والسلع من يد إلى يد بدون توفر الثقة.
وأيضا الإعلام ثقة ولعلنا نذكر ما حدث عقب نكسة 67 عندما انكشف التهليل والتضليل الذى مارسه الإعلام خلال أيام الحرب، وفقد الجمهور الثقة فى الإعلام الوطنى واتجه إلى متابعة الإعلام الأجنبى لفقدانه الثقة فى إعلامه حتى على مستوى حياتنا اليومية.
تلعب الثقة دورا هاما فالأسرة تقوم على الثقة ولا توجد أسرة مستقرة سعيدة إذا انعدمت الثقة بين الزوجة والزوج، والرياضة أساسها الثقة فلا يمكن إقامة مباراة دون حكام عدل ونشاهد بأسف ظاهرة استدعاء حكام أجانب لمباريات الأندية الكبيرة لانعدام الثقة فى حكامنا. فإذا أدركنا قيمة الثقة كعنصر أساس للاستقرار والتقدم والرخاء، فإننا نتساءل عن كيفية بنائها وترسيخها فى المجتمع.
الثقة هى سمة أخلاقية تزرع وتنمى فى الإنسان منذ نعومة أظافره عن طريق التربية والتعليم فى البيت وفى المدرسة وفى المسجد والكنيسة وفى النوادى، مع التصدى بحزم شديد لكل مظاهر الخروج عن طريق بناء الثقة مثل ظاهرة الغش الجماعى فى المدارس بمشاركة من المدرسين وأولياء الأمور. وفى مجال الرياضة التى تسهم فى صقل الشباب حيث نرى تنابذ وتلاسن وخوض فى الذمم والأعراض بين تيارات المؤسسات الرياضية الكبرى بما يزعزع الثقة ويشوه القدوة.
وأخيرا، سياسيون عاصروا كل النظم السياسية فى مصر منذ نصف قرن وهللوا وكبروا لها رغم اختلاف توجهاتهم، وأكلوا على موائدهم.
ونحن ننظر إلى المستقبل وتحقيق الرخاء والتقدم والاستقرار، علينا أن نضع نصب أعيننا الثقة وترسيخها والتصدى بحزم لكل ما يقوضها ويزعزع أركانها.