حمدي أبو جليل.. من حكايا الصحافة والثقافة
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 17 يونيو 2023 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
لا أنكر أن خبر رحيل الكاتب والروائى حمدى أبو جليل قد نزل كالصاعقة على رءوس محبيه وأصدقائه وقراء أدبه وأعماله الروائية والقصصية المتميزة فضلا على كتاباته الفكرية اللاذعة والمواد الصحفية التى كان يحررها للصحف والمجلات الدورية فى مصر والعالم العربى.
حالة عارمة من الذهول والصدمة أحاطت بالوسط الثقافى المصرى والعربى، فلم يكن حمدى أبو جليل بالمجهول ولا المتوارى، كان كتلة ملتهبة من الصخب والغضب والإبداع والرفض والجسارة والحدة ورقة الشعور والسخرية وخفة الظل.. دموعه أصدق ما فيه، وكتابته الإبداعية مثله تنمحى فيها الحدود بين الواقع والخيال، يكتب بحرارة الدم وطعم الدموع.
لم يكن حمدى أبو جليل مجرد كاتب وروائى؛ إنه حالة إنسانية وإبداعية غريبة ومدهشة (وقد تكون مزعجة أيضا لمن لم يعرفه عن قرب).
ــ 2 ــ
لم يترك سوى أربع روايات فقط، وكان يستعد لإصدار الخامسة، ومجموعتين أو ثلاث مجموعات قصصية على الأكثر، كان يعد بالكثير لكنه رحل فجأة عن ستة وخمسين عاما هكذا دون مقدمات رغم كل ما كان يحدثه من جلبة وصخب وضوضاء وإثارة للمعارك والمشكلات. لم يكن يتورع أبدا عن مهاجمة أى شخص أو رأى أو فكرة أو موقف. كان مندفعا كالعاصفة، لا يلوى على شىء.
لكن كانت هذه هى القشرة الخارجية، السياج البرانى الذى كان يظن أنه يحمى به روحه الشفيفة، وقلبه الهش ووجعه الدفين، وحزنه الذى لا ينتهى. فى واحدةٍ من مراسلاتنا (وقد تعددت وكثرت فى السنوات الأخيرة خاصة بعد أن أرسل لى مخطوط روايته قيام وانهيار الصاد شين) علقت تعليقا نقديا مطولا على روايته التى لم يكن أصدرها بعد؛ فجاءتنى سطوره تتفجر تأثرا ومشاعر عارمة بل ودموعا حارة وصادقة.
ــ 3 ــ
لا أزعم أننى كنت من دائرته المقربة الخاصة أو من أصدقائه الذين لازموه وأحبوه وعرفوه عن قرب القرب لسنوات وسنوات، لكننى أزعم أننى عرفته فى مساحة خاصة جدّا، مساحة الصحافة الثقافية، حيث كنا نلتقى أسبوعيا أو شهريا فى مكتب جريدة (الاتحاد) بالقاهرة قبل ما يزيد على ثلاث عشرة سنة، وكان يديره آنذاك المرحوم سيد عز الدين، حيث ظل حمدى أبو جليل لسنواتٍ طويلة يراسل الجريدة الإماراتية العريقة، خاصة صفحتها الثقافية اليومية، وملحقها الثقافى الأسبوعى (الخميس)، ويقدم مواد ثقافية صحفية شائقة، أثمرت كتابين من أشهر كتبه وأكثرها رواجا وذيوعا؛ أولهما كتابه «القاهرة شوارع وحكايات»، والثانى «القاهرة جوامع وحكايات».
ولا أنكر إعجابى الشديد بطريقته المخصوصة فى كتابة هذه الفصول التى نشرت على حلقات أسبوعية لما يزيد على العامين، حيث استثمر قدراته السردية وبراعته فى الوصف ورسم المشهد فى إعادة سرد تاريخ القاهرة عبر العصور الإسلامية التى تعاقبت عليها منذ تأسيسها.
كان يخبرنى أنه يمضى نهاراتٍ وليالى سائرا على قدميه فى هذا الشارع أو ذاك الدرب، يطوف حول هذا الجامع أو ذاك السبيل، يتأمله وينصت إليه إنصاتا، ثم يعود ليسجل كتابة نتاج هذه الخبرة الخاصة، وقبل أن يقرأ حرفا عن تاريخ الأثر أو الشارع أو المسجد الذى يكتب عنه.
يتأنى كثيرا قبل أن يعاود كتابة الموضوع فى صورته الأخيرة؛ مازجا خبرته الخاصة واستجابته الداخلية (الشعورية والذهنية) لهذا الأثر أو ذاك قبل أن يطعِّم سرده بالمعلومات التاريخية الموثقة واللازمة، بعد أن يكون قد عاد إلى المصادر والمراجع التى كان يخطِّط فيها بالقلم الرصاص تارة أو بالقلم الأخضر الحبر تارة أخرى.
لكنه سرعان ما ينفر من التوثيق والنقل وإيراد النصوص، ويترك العنان لقلمه على سجيته، يحاور ويناور ويخايل ويتخيل حتى ينتهى من كتابة ما يريد كى ينشر أولا على حلقات أسبوعية فى الجريدة، ثم يقرر لاحقا أن يجمع هذه الفصول كى تنشر بين دفتى كتاب ظهرت الطبعة الأولى منه فى عام
ــ 4 ــ
واستثمارا للنجاح الكبير الذى لاقته حلقاته عن «القاهرة شوارع وحكايات»، وللكتاب الضخم الذى نشره بالعنوان ذاته فى 2010، يقرر هذه المرة أن يتابع جولاته ورصده فى القاهرة التاريخية متتبعا التاريخ غير المكتوب لمساجد وجوامع القاهرة، فوراء كل حجر قصة، وتحت كل بلاطة رواية، وحول هذه المئذنة التى تطاول السماء حكايا غير تلك التى دونت فى الكتب والمصادر.
وفى 2013 سيخرج حمدى أبو جليل بالطبعة الأولى من كتابه الثانى، الجميل الأنيق «القاهرة جوامع وحكايات» يسجل فى هذا الكتاب ناتج جولاته ومشاهداته وتأملاته فى تاريخ القاهرة عبر بوابة جوامعها ومساجدها هذه المرة؛ يعيد بقلمه كتابة حكايات التأسيس وتفاصيل الإنشاء وسير المنشئين، متتبعا المسار الزمنى التاريخى منذ عرفت مصر أول جوامعها الكبرى فى الفسطاط على يد عمرو بن العاص، حتى أحدث مساجدها الجامعة التى أنشئت فى القرن التاسع عشر والقرن العشرين، على يد أبناء محمد على باشا مؤسس مصر الحديثة... (وللحديث بقية).