أمريكا ويد المصالحة الممدودة لإيران
إيهاب وهبة
آخر تحديث:
الجمعة 17 يوليه 2009 - 6:26 م
بتوقيت القاهرة
خرج أوباما عما ألفناه فى السياسات التى اتبعتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة فى التعامل مع إيران، ليوجه رسالة ذات دلالات كبيرة إلى القيادة والشعب الإيرانى يوم 20 مارس الماضى بمناسبة عيد النيروز. ولأول مرة يستخدم أوباما المسمى الرسمى للدولة «كجمهورية إسلامية». وفيما يتعلق بمضمون الرسالة فقد أكد أن الإدارة الأمريكية الجديدة تسعى لإقامة علاقات بناّءة مع إيران.
وعندما وجه أوباما رسالته إلى العالم الإسلامى من القاهرة يوم 4 يونيو، والتى أكد فيها حرص بلاده على بداية علاقات جديدة معه تتأسس على المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل، خصّ إيران بفقرات واضحة تؤكد أن إدارته ستمضى قدما فى طريق التغلب على فقدان الثقة بين البلدين التى استمرت لعشرات السنوات وهى متسلحة بالشجاعة واستقامة النوايا والعزم. وأضاف أن هناك الكثير من القضايا التى سيتم مناقشتها بين البلدين دون شروط مسبقة ولكن على أساس من الاحترام المتبادل.
ومن ناحيته، كشف مرشد الثورة الإسلامية آية الله على خامنئى فى خطبة الجمعة التى ألقاها يوم 19 يونيو فى أثناء اشتعال الموقف فى طهران بعد الانتخابات التى جرت فى 12 يونيو، عن رسالة تلقاها فى تاريخ سابق من الرئيس الأمريكى وإن لم يدخل فى تفاصيلها. وتبين بعد ذلك أن هذه الرسالة تحدثت عن إمكانيات التعاون بين البلدين فى القضايا الإقليمية والثنائية، بمعنى آخر، فإن الولايات المتحدة أبدت الاستعداد للتعاون مع النظام الإيرانى بصرف النظر عمن تأتى به الانتخابات.
لم يكن غريبا إذن، مع وجود هذه الرغبة الأمريكية الأكيدة فى فتح صفحة جديدة فى العلاقات مع إيران، أن تتعامل إدارة أوباما بحرص شديد واختيار دقيق للكلمات فى التعليق على أحداث إيران، وكان أعنف تصريح صدر عنه يوم 26 يونيو هو أنه من حق الشعب الإيرانى أن يعبر بحرية عن رأيه، ومثنيا من جهة، على شجاعة الشعب، ومدينا من جهة أخرى الشراسة والبشاعة من قبل السلطات فى أسلوبها فى قمع الاحتجاجات. ونلاحظ على الفور أن أوباما تجنب الحديث عن العملية الانتخابية ذاتها أو وصفها بهذا الوصف أو ذاك، كما لم يشر إلى احتمال وقوع انتهاكات أثناء سير العملية وتفادى الظهور بمظهر المنحاز أو المؤيد لمرشح على حساب الآخر. وبالإضافة لذلك أكد أنه لن يعطى الفرصة لأى جهة كى توجه الاتهام للولايات المتحدة بأنها مارست التدخل فى العملية الانتخابية.
ويبدو أن بريطانيا كانت أقل حصافة فى التعامل مع التطورات الإيرانية، الأمر الذى دفع بإيران إلى اتخاذ بعض الإجراءات الدبلوماسية الانتقامية ضدها على أساس اتهامها بالتدخل فى الشأن الإيرانى الداخلى.
نعود إلى الموقف الأمريكى من الأحداث لنتساءل عن الأسباب التى دفعت أوباما وإداراته إلى التزام مثل هذا الحذر المفرط فى التعامل مع هذه الأحداث. تكمن الإجابة فى أن هناك العديد من الملفات الحيوية التى لا ترغب أمريكا فى التفاوض حولها فقط مع إيران، بل تتطلع إلى تعاونها فى معالجتها:
يتصدر الملف النووى الإيرانى هذه الملفات جميعا. لن تسمح الولايات المتحدة لإيران بأن تمتلك سلاحا نوويا يهدد مصالحها فى المنطقة ويطلق العنان لسباق تسلح نووى فيها. ومادامت هناك بارقة أمل فى أن تنجح المفاوضات مع إيران لمنع ذلك بالطرق السلمية، فلن تتخلى أمريكا عن اتباع هذا الأسلوب. وكلنا يتذكر كيف رفض أوباما التمشى مع الطرح الإسرائيلى بوضع سقف زمنى تتوقف عنده المفاوضات حول هذا الملف، بل قال بوضوح إنه لا يقبل سقوفا زمنية مصطنعة تكبل عملية التفاوض مع إيران. وهناك آلية يتم من خلالها التحدث مع إيران حول ملفها النووى تضم الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا.
يأتى موضوع العراق بعد الملف النووى الإيرانى مباشرة على قائمة أولويات الولايات المتحدة فى اتصالاتها بإيران. انسحبت القوات الأمريكية اعتبارا من أول يوليو الحالى من داخل المدن العراقية. ولا تستبعد أمريكا أن يترتب على ذلك تزايدا فى نشاط المقاومة المسلحة. بل إن الجنرال ديفيد بيتريوس قائد القيادة المركزية الأمريكية صرح فى أثناء وجوده بالقاهرة فى 29 يونيو أى منذ أيام قليلة بأن إيران تواصل إرسال السلاح وتقديم الدعم المالى وتوفير التدريب وتوجيه العمليات للعناصر المتطرفة داخل العراق، مضيفا بأن ذلك يتسبب فى حدوث مشكلات أمنية بالعراق. ومع إعادة انتشار القوات الأمريكية فى العراق أخيرا فإن الحاجة إلى تعاون أكبر مع إيران تبدو واضحة. وربما يتم التفاهم حول خطوط حمراء لا يسمح لأى طرف بأن يتجاوزها.
فى المرتبة التالية يأتى الملف الأفغانى. إيران دولة جارة لأفغانستان ترتبط معها بعلاقات ثقافية وتجارية (800 مليون دولار فى شكل صادرات إيرانية فى العام الماضى) واقتصادية ضخمة تتمثل فى مساهمة إيران فى إقامة مشروعات للبنية التحتية فى أفغانستان مثل شق الطرق ومد خطوط الكهرباء والسكك الحديدية وبشكل عام المساهمة بطريقة ملموسة فى مشروعات التنمية. وتعلق أمريكا أهمية كبرى على ذلك وترى فى هذه التنمية دعما للاستقرار فى أفغانستان. ويضاف إلى هذه الاعتبارات تلك العداوة التى تكنها إيران لنظام طالبان الذى اضطهد الأقلية الشيعية عندما كان فى الحكم فى أفغانستان بل وقام عام 1998 بإعدام الدبلوماسيين الإيرانيين فى القنصلية فى مزار الشريف. ومعروف أن إيران لعبت دورا مؤثرا فى إقصاء طالبان عن الحكم، وتتطلع أمريكا لتعاون إيرانى بشكل أو بآخر فى موجهتها المستمرة مع طالبان خاصة أن أمريكا لا ترى نهاية فى الأفق للحرب هناك، وها هى تشن منذ أيام قليلة أكبر عملية عسكرية لقوات المارينز منذ حرب فيتنام وذلك ضد طالبان بإقليم هلمند فى جنوب أفغانستان. وليس مستغربا إذن أن توصف الحرب فى أفغانستان بأنها «فيتنام أوباما الجديدة».
ولا يقل ملف الشرق الأوسط أهميته عن كل الملفات السابقة التى تحرص الولايات المتحدة على أن تتعاون مع إيران فى شأنها. ويمكن أن يتخذ التعاون صورا شتى منها محاولة الحد من مساعى إيران لوضع العراقيل أمام مسيرة التسوية فى الشرق الأوسط، أو النيل من استقرار لبنان. ويقتضى هذا فتح ملفات علاقات إيران مع كل من حزب الله وحماس. ومثل هذا الحوار مع إيران سيأتى متزامنا وليس متعارضا مع الحوار الأمريكى السورى الذى بدأ أخيرا.
والسؤال الذى يطرح نفسه بالطبع، هو: عن أى إيران نحن نتحدث؟ هل إيران، بعد الصدام العلنى الذى وقع بين طرفى النظام المحافظ والإصلاحى، هى إيران التى ألفناها قبل وقوع الأحداث الأخيرة؟ هل أصاب النظام قدر من الضعف أو فقد جانبا من هيبته؟ وفى هذه الحالة، هل يمكن أن يسير النظام فى اتجاه التشدد فى معالجة الملفات السابقة، أم سيكون أقرب إلى التجاوب مع اليد الممدودة إليه، وتجنب التصعيد والصدام؟ كلها أسئلة مشروعة وتحتاج إلى قراءة صحيحة للموقف، بعد أن تهدأ العاصفة. غير أن الشىء المؤكد هو أن إدارة أوباما التى تعاملت بعقلانية كبيرة مع الأحداث، ستستمر فى مسعاها، على الرغم من كل ما تتعرض له من ضغوط سواء من قبل اليمين الأمريكى أو اللوبى الإسرائيلى، وذلك من أجل الدخول فى حوار جاد مع إيران حول مختلف القضايا، وعدم التضحية بالمصالح الإستراتيجية فى مقابل تسجيل نقاط تكتيكية عبر وسائل الإعلام لا تلبس أن تنمحى آثارها بعد وقت ليس بالبعيد.