حينما تقرر وزارة الكهرباء رفع أسعار خدماتها للمستهلك فإن أول ما يتم التصريح به من قبل مسئوليها هو ضرورة الحد من الدعم الموجه إلى الكهرباء، فى إطار خطة متكاملة للرفع التدريجى للدعم عن جميع منتجات الطاقة وتحرير أسعارها. التشوهات السعرية التى خلقها الدعم للمنتجات والخدمات هى الذريعة الأبرز لخطوات تحرير الأسعار أو تحريك الأسعار. لكن تتعدد الحقائق الغائبة عن هذا الطرح وإن لم يخلُ من وجاهة فى بعض جوانبه.
بداية التشوهات السعرية لا يخلقها الدعم الحكومى للأسعار وحسب، بل يخلقه أيضا وبدرجة أكبر حالة الاحتكار الحكومى والممارسات الاحتكارية للشركة القابضة للكهرباء. المنافسة تعنى توافر بدائل وحلول لإنتاج الطاقة، وتعنى تكلفة أقل على المستهلك النهائى، وجودة أكبر فى الإنتاج. المال الخاص متى سمح له بالمنافسة فى هذا المضمار دون قيود كالتى رأينا تأثيرها السلبى على شركات وطنية لإنتاج الطاقة الشمسية، هذا المال الخاص يحرص أصحابه عليه أكثر كثيرا من حرص الموظف العام على مال الشعب، وهو ما يعنى مزيدا من الوفر والكفاءة الإنتاجية والسعرية. كذلك لا يمكننا أن نغفل نقص الكفاءة فى إدارة المرافق الحيوية، والكثير من الهدر والفاقد فى عمليات الإنتاج والصيانة والتوزيع.. مما ينعكس بالضرورة على تكلفة الكيلووات من الكهرباء التى يحصل عليها المستهلك. لا أحد ينكر أن الحكومة تتحمل قدرا كبيرا من التكلفة بدعم إنتاج وتوزيع الكهرباء، لكننا لا نجادل فى مقدار هذا الدعم بقدر ما يجب أن يكون مدى الجدل هو كفاءة الإنتاج والتوزيع، ومن ثم مدى تعبير التكلفة عن النفقات الضرورية التى يحصل عليها عناصر الإنتاج. باختصار وفى ذات سياق الحديث عن وصول الدعم لمستحقيه، هل الحكومة تدعم الفقراء بدعم المنتج الوحيد للكهرباء، أم أنها تدعم الفشل ونقص الكفاءة فى هذا الإنتاج؟ لا نريد أن تسرع فى الإجابة على هذا السؤال. لكننا نقف حيارى أمام مبالغ الدعم الموجه لقطاع الكهرباء والتى ارتفعت فجأة منذ أعوام قليلة من أقل من 18 مليارا فى العام إلى ما يزيد عن 30 مليارا فى الوقت الذى كانت الدولة تنادى خلاله بتخفيض الدعم الموجه للطاقة!. هل كانت زيادة الدعم مقصودة بحيث يتم توجيهها لبعض المصارف المغذية لنقص الكفاءة فى الشركة القابضة مثل زيادة الأجور، وتعيين المستشارين، وتغطية سرقات التيار الكهربائى، وهدر الإنارة فى الأعمدة المضاءة نهارا.. إلى غير ذلك من نفقات لا تعنى مستهلك الكهرباء، ثم يتم الإعلان عن ضرورة رفع الدعم أو سحبه تدريجيا ليدخل المستهلك ممولا لهيكل جديد من الإنفاق فى هذا المرفق الاستراتيجى الخطير؟. أيضا يجب ألا نتسرع فى الإجابة على هذا السؤال، وأن ننظر إلى ما حدث فى مرفق مترو الأنفاق بعد الزيادة الأخيرة فى سعر التذكرة. الثابت أن اليوم التالى لرفع الأسعار شهد توزيع مكافآت على العاملين!
لكن شركة الكهرباء ومن ورائها وزارة الكهرباء تحدثنا عن متوسطات عالمية لأسعار الكهرباء، وتضع الأسعار فى مصر ضمن أقل الأسعار العالمية، وهى بذلك تريد أن تثبت أن الهدر والفاقد فى التوزيع لا يؤثران على التكلفة بصورة تؤذى المستهلك. هذا دفع ظاهره الحق، لكنه يقع أيضا فى إطار خداع الأرقام الذى تحدثت عنه فى مقالى الأسبوع الماضى وفى سياق الحديث عن فائض ميزان المدفوعات.
***
الشرائح الجديدة التى أطلقتها الوزارة لأسعار الكهرباء «تتعدد» وتتقاطع بصورة غير مألوفة فى التجارب الدولية المشابهة. كما أن بعض الشرائح تنطوى على ما يشبه الضريبة المانعة أو العقابية! فما فوق استهلاك المائتى كيلووات إلى الشريحة التالية، وما فوق استهلاك الألف كيلو وات ــ وبدون سقف ــ يحمل المستهلك بسعر أعلى للكيلووات بداية من استهلاك صفر إلى 200، ومن صفر إلى ما فوق الألف! أى إن الذى يستهلك 1000 كيلو وات يحاسب وفقا للشرائح المختلفة بما لا يزيد على 800 جنيه بالأسعار الجديدة للشرائح، أما إذا استهلك 1001 فسوف يحاسب بـ135 قرشا عن كل كيلووات وبدون اعتبار للشرائح، أى سيدفع تقريبا 1351 جنيها! فتكلفة واحد كيلووات إضافية تساوى ما يزيد عن 550 جنيها! أعتقد أن دور قارئ العداد سيكون مؤثرا فى هذه المنظومة. الأمر الآخر الذى يجب الالتفات إليه لتفنيد زعم انخفاض التكلفة فى مصر، هو أن تلك الأسعار التى يتم مقارنتها بالأسعار العالمية «الإجمالية» يضاف إليها رسوم إدارية، ورسم إذاعة، ورسم محافظة، ورسم نظافة، بما يرفع من متوسط السعر عن المعلن رسميا.
بالبحث فى الأسعار العالمية وجدت أن متوسط سعر الكيلووات فى الدول منخفضة الدخل ومنخفضة أسعار الكهرباء يتراوح (فى إجماليه) بين 2 سنت أمريكى إلى 8 سنت، علما بأن سعر الكيلووات فى أعلى شريحة فى مصر يصل إلى 7.5 سنت أمريكى تقريبا دون إضافة الرسوم، فهل هذا يضعنا فى مرتبة معقولة ضمن دول المقارنة؟ بالطبع لا، لأن المتوسطات العالمية المذكورة شاملة لكل الرسوم والضرائب، كما أننا عادة ما نغفل تماثل القوى الشرائية التى تغير تماما من الأسعار السائدة. فإذا أخذنا تماثل القوى الشرائية فى الحسبان، ترتفع تكلفة الكيلووات للمستهلك فى الهند من أدنى المستويات إلى ما يقترب من الأسعار فى أكثر الدول ارتفاعا فى أسعار الكهرباء مثل إيطاليا، كذلك الحال بالنسبة لمصر.
إن كنت غير مختص وتريد أن تعرف كيف تؤثر القوى الشرائية فى جداول المقارنة بين أسعار السلع والخدمات عبر الدول، فعليك أن تتصور ما الذى يمكن أن يشتريه المواطن المصرى بـ135 قرشا وكم تمثل من دخله، وما يمثله 7.5 سنت فى الولايات المتحدة الامريكية أو السويد! أنا أعرف أشخاصا يمكنهم الحصول على وجبة إفطار فى مصر بسعر الكيلووات، وهو ما لا يمكن قوله فى الولايات المتحدة بأقل من ثمانية سنتات!
التكلفة ومستوى المعيشة ومستويات الدخول كلها عناصر حاكمة لدى المقارنة، وهذا أمر لا أختلقه من عندى، فابحث إن أردت عن إحصائيات مقارنة لأسعار الكهرباء وأضف إلى محرك البحث هذه الحروف PPP أى ما يعنى purchase power parity فسوف تجد أن تعادل أو تماثل القوى الشرائية يغير تصنيف الدول بين المجموعات الأعلى والأقل تكلفة للكهرباء وغيرها من خدمات وسلع. ورغم أنى لم أجد إحصائية تشمل مصر فى هذا الخصوص، لكننى أعتقد أن 7.5 سنتا تساوى فى مصر أكثر من 28 سنتا بما يزيد عن الأسعار فى إيطاليا المشهورة بأنها من أعلى الدول تكلفة.
***
حينما دعيت يوما إلى كتابة تصور عن محاور العمل والتخطيط بوزارة الكهرباء والطاقة المتجددة، كتبت أنها ــ ودونما تعارض مع محاور العمل الاستراتيجى التى أعلنتها الوزارة على صفحتها على الإنترنت ــ يجب أن تقوم على أربعة محاور أساسية لمواجهة التحديات المحيطة بهذا القطاع الحيوى:
المحور الأول: القضاء على الفاقد والهدر لدى توزيع واستهلاك الكهرباء.
المحور الثانى: صيانة وتطوير المحطات وشبكات التوزيع القائمة.
المحور الثالث: تدشين محطات جديدة لتوليد الكهرباء وإنشاء شبكات حديثة للتوزيع.
المحور الرابع: التوسع فى مشروعات توليد الطاقة النظيفة والمتجددة.
وبالتأكيد لخصت فى كل محور رؤيتى المتواضعة لما يجب أن تقوم به الوزارة من أجل تحقيق أهدافها، وفى إطار أهداف أشمل للتنمية المستدامة، وكم أتمنى أن يعود الوزير المحترم لما كتبته فى عام 2014، ربما وجد البدائل المناسبة لتحسين الكفاءة، وتخفيض التكلفة، وتخفيف الأعباء على المواطنين.