ماذا فعل بنا العصر الأمريكى؟
جلال أمين
آخر تحديث:
السبت 17 أغسطس 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
حدث منذ نحو سبعين عاما، حادث خطير، أصبح العالم بعده مختلفا جدا عما كان قبله. لم يكن هذا الحدث هو الوحيد فى التاريخ الذى أحدث انقلابا كبيرا فى أحوال العالم.
فهكذا كان أثر الثورة الفرنسية مثلا، وأثر الثورة الصناعية، وقد حدثا منذ أكثر من قرنين، وكذلك أثر الحرب العالمية الأولى، والثورة الروسية، منذ قرن من الزمان، وسقوط حائط برلين منذ ربع قرن. ولكننى لا أظن أن أيا من هذه الأحداث يعادل فى أثره الجزء الأفقر من العالم، أيا ما كان يسمى بالعالم الثالث، بما فى ذلك مصر، ما كان للحرب العالمية الثانية (39 ــ 1945) من أثر.
كنت طفلا صغيرا عندما قامت تلك الحرب، ثم شهدت فى مطلع شبابى قيام ثورة 1952، وتأميم قناة السويس فى 1956، ثم إعلان القوانين الاشتراكية فى 1961، والهزيمة العسكرية الفادحة فى 1967، ثم نجاح المصريين فى عبور قناة السويس فى 1973، وإعلان السادات انفتاح مصر على العالمم فى العام التالى، ثم توقيعه لمعاهدة الصلح مع إسرائيل فى 1979، ثم مقتله بعد عامين.
كنت قد تجاوزت الأربعين من عمرى عندما تسلم حسنى مبارك الحكم، فعاصرت يوما بعد يوم الثلاثين عاما الكئيبة التى استمر فيها حاكما لمصر، وحاول فى أواخرها ترتيب توريث الحكم لابنه وفشل. كما عشت يوما بعد يوم أيضا العامين الماضيين اللذين تليا ثورة 25 يناير 2011. وها آنذا أعانى اليوم، مثلما يعانى معظم المصريين، الشعور بالإحباط الناتج عما نسمعه يوميا من أحداث مخيبة لأمل بعد آخر من الآمال التى بعثتها ثورة 25 يناير.
عندما استعدت شريط هذه الأحداث كلها، قفزت إلى ذهنى الحرب العالمية الثانية كحادث فاصل بين عصرين مختلفين أشد الاختلاف، وبدا لى أن إدراك الفوارق الكبيرة والحاسمة بين هذين العصرين قد يلقيان ضوءا مفيدا فى فهم ما نمر به اليوم من أحداث.
من الملائم جدا فى رأيى، أن نصف عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى الآن بأنه «العصر الأمريكى». وأعتقد أن هذا الوصف يمكننا من أن نفهم أهم ما طرأ من تغيرات على أحوال مصر، ومعظم دول العالم الفقيرة، منذ ذلك الوقت.
كان من أهم نتائج تلك الحرب أن ورثت الولايات المتحدة دول أوروبا الاستعمارية، وأهمها بريطانيا وفرنسا، (مع استثناءات قليلة حل فيها الاتحاد السوفيتى محل هذه الدول الاستعمارية القديمة، ولكنه فشل فى الاحتفاظ بها بعد نهاية الثمانينيات). لم تسدل الحرب العالمية الثانية إذن، الستار على ظاهرة الاستعمار بل استبدلت فقط صورة جديدة للاستعمار بصورته القديمة. كيف يمكن أن نتوقع غير ذلك فى عالم اتسم دائما بسيطرة القوى على الضعيف؟ كان لابد بالطبع أن يتغير أسلوب السيطرة، ونوع الخطاب المستخدم لتبريرها. أما واقعة السيطرة والقهر نفسها، فتظل مستمرة حتى يجد المقهورون طريقة للإفلات. لقد كادت كلمة «الاستعمار» أن تختفى اختفاء تاما بعد أن كنا لا نكف عن استخدامها فى صبانا ومطلع شبابنا، ولكن اختفاء كلمة الاستعمار شىء، وانتهاء الاستعمار نفسه شىء آخر.
حدث تغير آخر فيما يتعلق بـ«الديمقراطية». فعندما قامت ثورة 1952، كلان أحد أهدافها الستة المعلنة «إقامة حياة ديمقراطية سليمة»، على أساس أن الديمقراطية التى عرفتها مصر فيما بين الحربين لم تكن سليمة بل مزيفة، فإذا بنا نشهد فى الستين عاما التالية (52 ــ 2011) عهودا تتراوح بين الدكتاتورية السافرة، والدولة البوليسية، وبين ديمقراطية تثير الرثاء، بما كان فيها من تناقض بين الشعارات المرفوعة وبين تجديد مستمر لقانون الطوارئ، وتزييف للانتخابات واعتقال المعارضين وإغلاق صحفهم.
كان من بين الأهداف المعلنة أيضا لثورة 1952، القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، فإذا بنا نرى أن ما حدث هو مجرد الانتقال من التدخل الخجول جدا من جانب رأسمالى عصامى مثل أحمد عبود باشا فى بعض القرارات السياسية، إلى التزاوج الصريح جدا بين رأسماليين من نوع أحمد عز وبين لجنة السياسات ووزارات الحكومات الأخيرة فى عهد حسنى مبارك.
أما العدالة الاجتماعية التى كانت أيضا من بين أهداف ثورة 1952، فقد كانت بالطبع هدفا مبررا تماما بالنظر إلى الفجوة الرهيبة بين مستوى معيشة الفلاحين فى القرى والإقطاعيين المقيمين فى قصورهم فى المدينة، ولكن ما أقل ما أحرزناه من تقدم فى هذا الأمر أيضا، عندما ننظر إلى الفجوة القائمة بين نمط حياة سكان العشوائيات اليوم فى المدن المصرية، وبين نمط حياة الطبقتين العليا والوسطى فى المدن أيضا كان الحلم الأكبر للفلاح المعدم قبل 1952، أن يتملك قطعة أرض صغيرة، وأن يتعلم ابنه فى المدارس ويصبح موظفا فى الحكومة. أما الآن، فقد أصبح حلمه، سواء كان يملك قطعة أرض صغيرة أو لا يملكها، تعلم فى المدارس أو لم يتعلم، أصبح موظفا فى الحكومة أو لم يصبح، هو أن يقبل أحد مقاولى الأنفار أن يمكنه من السفر عبر البحر المتوسط للدخول خلسة إلى أرض إيطاليا أو اليونان، ليبدأ هناك فى البحث عن عمل يتعذر الحصول عليه فى مصر.
كم كانت آمالنا عالية منذ ستين عاما، عندما قامت ثورة 1952، سواء فيما يتعلق بالتخلص من الاستعمار إلى الأبد، أو تطبيق نظام ديمقراطى حقيقى، أو إنهاء سيطرة رأس المال على الحكم، أو تحقيق (أو على الأقل البدء فى تحقيق) نظام تسوده العدالة الاجتماعية. ولكن كم خابت آمالنا، فى كل هذه المجالات الأربعة، إذ نجد أنفسنا الآن، بعد انقضاء هذه الفترة الطويلة، مازلنا دولة «تابعة»، وإن لم تعد تسمى مستعمرة، وبعيدة كل البعد عن تلبية رغبات الناس وتحقيق مصالحهم، وإن كانت تطبق أسلوب الترشيح والتصويت فى الانتخابات، ولا تبدو أى بادرة تدل على التخلص من سيطرة رأس المال على الحكم، أو السير نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، رغم استمرار رفع هذه الشعارات مرة بخطاب له صبغة «مدنية» ومرة بصبغة «دينية».
هل يمكن حقا أن نرد كل هذا إلى أننا منذ نحو ستين عاما دخلنا فيما يمكن تسميته «بالعصر الأمريكى»، وما زلنا فيه لم نغادره؟ وأنه لا أمل لنا فى تحقيق آمالنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلا بالخروج منه؟ أعتقد أن الإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة هى بالإيجاب، وسوف أحاول أن أبين ذلك فى المقال التالى.