الحوار الوطنى من منظور «حركية المعرفة»
محمد رءوف حامد
آخر تحديث:
السبت 17 سبتمبر 2022 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
فى تناول سابق بزغ التساؤل: «هل لو كانت الظروف قد سمحت بالحوار فى أوقات سابقة (منذ 2012 وحتى 2018) كان من الممكن أن تستفحل المشكلات الاقتصادية إلى ما وصلت إليه؟» (من القلق المجتمعى إلى الحوار الوطنى.. والعكس ــ الشروق 2 يوليو 2022).
وبينما ينطلق التساؤل من قدر الحس بتعقيدية الأزمة الاقتصادية (والتى كانت مدخل الدعوة للحوار الوطنى) فإن هذه الأزمة، بطبيعتها وحدتها وتعقيديتها، تتطلب إجراء الحوار فى أحسن إطار منهجى ممكن، وحتى لا يتوه عمَّا تحتاجه منه مصر. إنه الإطار الذى يكمن فى «حركية المعرفة».
هنا، يجدر الانتباه أن حركية المعرفة تمثل «الزانة» التى يمكن بالاتكاء المجتمعى عليها القفز عاليا إلى حد تخطى أسباب ودوامات هذه الأزمة، تماما كما رياضة «القفز بالزانة».
لذا، يتناول الطرح الحالى «حركية المعرفة» كآلية للقيام بإنجاز منهجى مجتمعى إبداعى يقدر على الوصول بالحوار إلى علاج وتصحيح أوضاع وسياقات الأزمة، وتحول مصر إلى مسار التقدم.
أولا ــ معالم «حركية المعرفة» كآلية كبرى
يمكن الإشارة للمعرفة باعتبارها الفهم النظرى والعملى لموضوع ما. ولأن ما نحن بصدده يتعلق بالشأن العام، فإن الجوهر الرئيسى للمعرفة المعنية هنا يختص بهذا الشأن. وعليه، يجدر الانتباه إلى ما يلى:
1) أن منسوب المعرفة بالشأن العام عند عموم الشعب المصرى قد تصاعد مؤخرا، وبوضوح.
2) أن تصاعد منسوب المعرفة يصحبه تصاعد فى العزم المتولد عنه بحيث تصبح المعرفة مصدرا لـ«طاقة» تقود للتحول من حالة أدنى إلى أخرى أرقى.
3) أن الحركية السياسية، والتى تختص بالشأن العام (من حيث أهدافه وآلياته وعملياته وتبايناته وعلاقاته وتحدياته ومساراته)، تمثل أرقى أنواع حركية المعرفة.
4) وجود علاقة طردية بين كل من منسوب المعرفة وحركيتها، بحيث يؤدى تصاعد أحدهما إلى تصاعد الآخر.
ولأن التحول (بالعلاج والتصحيح والارتقاء) يأتى كنتاج لحركية المعرفة، فإنه يجدر التعرف على مراحلها، والتى تتجسد فى دورة من ثلاث مراحل رئيسية.
تختص المرحلة الأولى بالتنقيب عن الحلول الممكنة. وأما المرحلة الثانية فتختص بـ «التقييم وإعادة التقييم» أثناء الإقدام على ممارسة الحل (أو الحلول). بعدها تأتى المرحلة الثالثة والخاصة بالتطوير وتوليد معرفة جديدة (للتفاصيل: حركية المعرفة ومستقبليات الشارع العربى ــ كراسات مستقبلية ــ 2021).
يمثل التنقيب (أول مراحل حركية المعرفة) نقطة الانطلاق بخصوص التوصل إلى إجابات أو طرق للمواجهة. لذا، فالتنقيب يُبحر تجاه الخبرات الذاتية، والتراث، والخبرات الخارجية.
مع ممارسة التنقيب تتصاعد المكتسبات (من المعارف والإدراكات)، ويتزايد التصاعد مع الولوج إلى المرحلة التالية، والتى تجرى فيها ممارسة «التقييم وإعادة التقييم» لما يكون قد جرى التوصل إليه بشأن الإجابات والحلول.
فى مرحلة التنقيب، تتكثف الاجتهادات (والحوارات) للتوصل إلى التصورات التطبيقية الأحسن. بعدها يجرى «تقييم» أبعاد الرؤية التطبيقية بإتقان، وإذا ما كشف التقييم عن وجود ما يستدعى الانتباه والتغيير فى الرؤية يجرى التوصل إلى الرؤية الأكثر مناسبة، من خلال «إعادة التقييم»، وهكذا.
مع اكتمال المرحلة الثانية تكون حركية المعرفة قد أفرزت الحلول الأحسن والأنسب. وفى حالة تألق حركية المعرفة (ومخرجاتها) على المستوى المجتمعى (دولة ــ مؤسسة.. إلخ) فإنه يمكن الولوج إلى المرحلة الثالثة، والتى تختص بتطوير ما تم التوصل إليه من معرفة تطبيقية، بل وتوليد معرفة جديدة.
أكثر ما يجدر الانتباه إليه فى منهجية حركية المعرفة ما تتمتع بها من «جدلية»، والتى توفر الضمان لنجاحها، الأمر الذى يحتاجه الحوار الوطنى.
وعليه، فإن حركية المعرفة تقوم على الفاعليات الذهنية والمنهجية والبحثية، وتقود إلى الحلول بالاعتماد على «الجماعية»، جماعية الخبراء وأصحاب الرؤى والفكر.
• • •
ثانيا ــ عن القيمة المضافة من حركية المعرفة إلى الحوار الوطنى
بينما من المفهوم ضرورة التزام الحوار الوطنى بخصائص الحوار، كمعنى وكآلية، كما جرت الإشارة فى وقت سابق، إلا أن تعظيم الحوار الوطنى، كقضية طارئة (فضلا عن تعقيديتها) يتطلب أقصى استيعاب ممكن لحركية المعرفة.
فى هذا الخصوص يجدر جذب الانتباه إلى الأركان التالية:
1) علاقة حركية المعرفة بالحوار كقيمة:
باعتماد الحوار على حركية المعرفة (ومراحلها) تتعمق القيم التالية:
ــ تحول «النقد» من مصيدة للاتهام إلى «منصة للإبداع».
ــ «تجنب التلكؤ» فى الاستفادة من الأفكار.
ــ «الفورية» فى التفاعلات، خاصة فيما يتضمنه الحوار من تغذيات مرتدة Feedbacks بين الأفكار، وداخل (وبين) فاعليات التنقيب والتقييم وإعادة التقييم.
ــ الانتفاع بالجدلية، كأساس فى المحاجاة Argumentations، والتى منها يُكتشف ما ينبغى تطبيقه بواسطة المنظومات القائمة.
2) العوامل المؤثرة على استيعاب الحوار لحركية المعرفة:
بعض العوامل إيجابية، مثل:
ــ استخدام الأزمة كفرصة (للعلاج والتصحيح).
ــ التفاعلات الصحية مع الآخر.
ــ التغذيات المرتدة Feedbacks كنتاج لعمليات التنقيب والتقييم... إلخ.
ــ المرونة المجتمعية Societal plasticity التى تنشأ كنتاج للتواصلات المعرفية أثناء الحوار.
وأما عن العوامل السلبية، والتى يمكن أن تعرقل حركية المعرفة وأن تهدم الحوار، فتكمن فيما يلى من محتملات:
ــ تغليب الرأى الفردى.
ــ تزييف المعرفة وتزيين المعرفة المضادة.
ــ القفز المباشر إلى الاستيراد أو الاستنساخ (للأفكار والتوجهات) دون معاناة الاجتهاد الذاتى.
ــ تعويق الولوج للحوار لأسباب سياسية أو إدارية.
ــ الاستعانة فى قضايا الحوار بتوجهات (أو ممارسات) مسبقة، على غرار رؤى أجنبية، أو المضى فى إجراءات اقتصادية جديدة دون التمهل انتظارا لنتائج الحوار. أيضا، تحجيم الإتاحة لدرجات حرية مناسبة، واحتضان كيانات وطنية لممارسات تطرفية الطابع (كواقعة عدم تنفيذ حكم لمحكمة النقض بشأن صحة عضوية أحد المرشحين).
وهكذا، الجدلية بين مختلف الرؤى تدعم التغلب على السلبيات.
3ــ المخرجات المجتمعية الجديدة الممكن اكتسابها باستيعاب الحوار لحركية المعرفة:
من شأن نجاح الحوار فى استخدامه لحركية المعرفة أن يكون مصحوبا بتطورات فى الثقافة المجتمعية، مثل:
ــ ازدياد قدر الثقة، والشفافية، واليقينية، والتشاركية فى الممارسات السياسية.
ــ عدم إهمال أية أفكار أو ملاحظات تتعلق بالشأن العام.
ــ تحفيز وتحريك الرضا والأمل.
ــ ازدياد المواءمة المجتمعية للتباينات فى الرؤى.
ــ استيعاب الجدلية والمحاجاة كمداخل لتطوير الفهم والممارسات.
ــ استخدام الاستشراف فى التعامل مع إشكاليات الحاضر.
ــ التحول إلى نموذج مجتمعى ناجح.
• • •
ختاما، تجدر الإشارة إلى أننا نعانى، عبر عقود، ضعف منهجى Methodological مزمن فى ممارسات الشأن العام، مما ساهم فى تزايد الفقد فى الطاقات والتوجهات والمسارات والزمن. الآن، مع الحوار الوطنى، يؤمل الانتباه لهذه الإشكالية، الأمر الذى تبدأ لبناته بالتوصل إلى «بروتوكول» لبرنامج عمل، وليس إلى توصيات. ذلك فضلا عن الحاجة إلى توليد منصات عملية جديدة لدعم مسارات التقدم الوطنى.
خبير صناعة الأدوية ورئيس هيئة الرقابة الدوائية السابق