مسيحيو الشرق.. بين الحق والابتزاز
محمد السماك
آخر تحديث:
الأحد 17 أكتوبر 2010 - 9:25 ص
بتوقيت القاهرة
ترأس البابا بنديكت السادس عشر أول مؤتمر يعقده الفاتيكان حول مستقبل مسيحيى الشرق الأوسط. وقد شارك فى المؤتمر جميع بطاركة الكاثوليك فى الشرق، وممثلون عن الكنائس المختلفة الأخرى، الأرثوذكسية والإنجيلية والسريانية والقبطية. كما حضره إيرانى شيعى وحاخام يهودى وعربى مسلم هو كاتب هذه السطور.
فما هى قضية مسيحيى الشرق؟ وما هى أهداف هذا المؤتمر؟ كيف وأين تقف دول المنطقة من هذه المبادرة؟. لقد سبق أن نظم الفاتيكان مؤتمرات حول مسيحيى آسيا، وحول مسيحيى أفريقيا. كما نظم مؤتمرا خاصا حول لبنان فى عام 1995. جرت كل تلك المؤتمرات فى عهد البابا الراحل يوحنا بولس الثانى. أما المؤتمر الحالى فهو الأول فى عهد البابا الحالى بنديكت السادس عشر. وقد سبقت الدعوة إليه زيارة قام بها البابا إلى المنطقة شملت الأردن وفلسطين المحتلة بما فى ذلك إسرائيل، كما شملت تركيا وقبرص. ووقف البابا من خلال جولاته على معاناة المسيحيين عن قرب، وهى معاناة يشاركهم فى العديد من مظاهرها، المسلمون العرب.
فى الأساس يشكو مسيحيو الشرق الأوسط ويعانون من عدد من القضايا أهمها:
- الانعكاسات السلبية الاجتماعية والاقتصادية لاستمرار الصراع العربى ــ الإسرائيلى.
- الانعكاسات السلبية لظاهرة تصاعد التطرف والغلو الدينى وآثارها السلبية على الحريات الدينية.
- الاعتداء على مسيحيى العراق على خلفية دينية على الرغم من أنهم ليسوا جزءا من لعبة الصراع على السلطة سواء بين السنة والشيعة، أو بين العرب والأكراد والتركمان.
- توالى المشاكل المحلية ذات البعد الطائفى فى مصر بين مسلمين وأقباط، خاصة فى قرى الصعيد (نجع حمادى مثلا).
- الانعكاسات السلبية لحركة «المسيحانية الصهيونية» فى الولايات المتحدة المؤيدة لإسرائيل، على صورة المسيحية عند مسلمى الشرق. (تداعيات محاولة إحراق المصحف الشريف ومعارضة بناء مسجد فى نيويورك).
أدت هذه القضايا إلى أسوأ ظاهرة يواجهها مسيحيو الشرق الأوسط، وهى الهجرة الواسعة من بلدانهم إلى الولايات المتحدة وكندا، وإلى استراليا، وأمريكا الجنوبية. وتتمثل هذه الظاهرة فى التراجع الحاد فى عدد مسيحيى دول المنطقة، الأمر الذى بات يشكل خطرا على النسيج الوطنى الذى عرف بها، وعرفت به، منذ بداية العلاقات الإسلامية ــ المسيحية قبل أكثر من ألف عام. فالمسيحيون كانوا يشكلون فى القرن الماضى نحو عشرين بالمائة من سكان الشرق الأوسط. أما الآن فإن النسبة تراجعت الى نحو الخمسة بالمائة فقط. وفى فلسطين على سبيل المثال كانوا يشكلون فى عام 1920 عشر عدد السكان، أما الآن فأصبحوا أقل من اثنين بالمائة.
من أجل ذلك يتطلع المسيحيون العرب باهتمام كبير إلى السينودس لمعالجة هذا الاستنزاف المستمر.
قبل هذه المبادرة البابوية، طرحت هذه القضية فى الولايات المتحدة على نطاق واسع. فى الإعلام ــ الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزة ــ وفى الكنائس، وكذلك فى الدوائر الحكومية وبصورة خاصة فى البيت الأبيض والكونجرس وفى وزارة الخارجية. أطلق هذه الحملة محام يهودى كان يشغل منصبا رفيعا فى وزارة المالية فى عهد الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان يدعى مايكل هوروفيتز. ادّعى هوروفيتز أن المسيحيين فى الدول الإسلامية ممنوعون من أداء مناسكهم الدينية. وأنه بمجرد اكتشاف مسيحى يحمل إنجيلا يتعرض للتنكيل والسجن والتعذيب.
ودعا هوروفيتز الإدارة الأمريكية إلى أن تسنّ قوانين جديدة تفرض بموجبها عقوبات مشددة على الدول الإسلامية التى تضطهد المسيحيين.
ومن أجل تنظيم هذه الحملة أُقيمت مؤسسة فى واشنطن العاصمة باسم: «بيت الحرية». مهمة هذه المؤسسة تجميع المعلومات والوثائق عن «اضطهاد» المسيحيين فى الدول الإسلامية وإعداد المنشورات الإعلامية لإدانة هذه الدول. وبالفعل فقد وزعت منشورات ضد السعودية وأندونيسيا ومصر على نطاق واسع. واستند عدد من الكتّاب فى تعليقاتهم ومقالاتهم السياسية إلى «المعلومات» المتوافرة فى هذه المنشورات.
توجهت الخطوة التالية فى هذه الحملة نحو الكنائس الأمريكية بهدف إثارة حميتها الدينية واستنفارها للدفاع عن المسيحيين المضطهدين، وقد اتهم هوروفيتز الكنائس الأمريكية بالتقصير تجاه «أخوة الإيمان» وحثّها على التحرك قبل فوات الأوان. وبالفعل استجاب عدد من الكنائس لدعوته التحضيرية. وأصدرت هذه الكنائس بيانا مشتركا بعنوان «بيان ضميرى» دعت فيه الإدارة الأمريكية لاتخاذ الإجراءات المناسبة لمواجهة «الاضطهاد الدينى» الذى لا يمكن تحمله والذى يستهدف «اخوة فى الإيمان».
ثم كانت الخطوة الثالثة عندما نظم المحامى اليهودى هوروفيتز لقاء تحت عنوان «اليوم العالمى للتضامن مع الكنيسة المضطهدة» اشتركت فيه استنادا إلى مجلة جيروزالم ريبورت (عدد يناير 1997) 40 ألف كنيسة.
مع عملية التحريض والتهييج الدينيين أدخلت هذه القضية إلى الكونجرس من بوابة الدفاع عن حقوق الإنسان. وفى اللجنة المختصة فى الكونجرس بدأ الاستماع إلى الشهود حول موضوع اضطهاد المسيحيين فى الدول الإسلامية. فإذا بهؤلاء الشهود فى أكثريتهم الساحقة من اليهود أمثال هوروفيتز نفسه. ومنهم: الكاتبة الصهيونية نيناشيا صاحبة كتاب «فى عرين الأسد»، والكاتب الصهيونى بات يئول صاحب كتاب «انقراض المسيحيين الشرقيين فى ظل الحكم الإسلامى»، والكاتب المتصهين ستيفن إمرسون صاحب كتاب «الأسلمة وأثرها على العلاقات الدولية وحقوق الإنسان». ولعل أسوأ هؤلاء جميعا الكاتب الصهيونى أ. م. روزنتال صاحب مقالة دورية فى صحيفة نيويورك تايمز الذى يركز فى مقالاته على ما يسميه اضطهاد المسيحيين الأقباط فى مصر.
من خلال الحملة فى الكنائس وفى أجهزة الإعلام وفى الكونجرس أصبحت هناك قضية أمام وزارة الخارجية الأمريكية تدعى قضية اضطهاد المسيحيين فى الدول العربية والإسلامية. وبات على الوزارة التحرك لوقف هذا الاضطهاد ولو اضطرت من أجل ذلك إلى وقف المساعدات إلى الدول التى تضطهد المسيحيين، أو إلى فرض حظر عليها ومقاطعتها تجاريا، كما جرى مع الاتحاد السوفيتى ــ السابق ــ فى عام 1980 عندما اتهمه اللوبى الصهيونى باضطهاد اليهود ومنعهم من الهجرة إلى إسرائيل. فقد فرضت الولايات المتحدة عليه فى ذلك الوقت عقوبات المقاطعة وأوقفت تصدير القمح والمعدات الالكترونية إليه مما حمله على التراجع وفتح أبواب الهجرة اليهودية إلى إسرائيل. وهدف الحملة الحالية هو أن تصبح قضية الاضطهاد المختلقة ركنا جديدا من الأركان التى تقوم عليها السياسة الخارجية الأمريكية مع العالم الإسلامى.
وتحت هذا الضغط المتعدد المصادر، شكل الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون لجنة خاصة أطلق عليها اسم «لجنة الشريط الأزرق» مهمتها إجراء تحقيق حول موضوع الاضطهاد الدينى. وعهد يومذاك برئاسة اللجنة إلى جون شاتوك مساعد وزير الخارجية لشئون الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وهكذا تجمعت كل العناصر اللازمة لتشكيل قضية معادية للعالم الإسلامى فى الولايات المتحدة الأمريكية. وأصبحت هذه القضية مفتوحة على نطاق واسع فى البيت الأبيض وفى وزارة الخارجية، وكذلك فى الكونجرس والكنائس وفى أجهزة الإعلام المختلفة.
على أن المقاربة الفاتيكانية تختلف فى الشكل والجوهر عن المقاربة الأمريكية. فالفاتيكان يتطلع إلى معالجة للمشاكل التى يواجهها المسيحيون فى الشرق الأوسط من خلال انتمائهم إلى شعوب المنطقة ودولها. فيما تتسم المقاربة الأمريكية لهذه المسائل بطابعى التضخيم والابتزاز.
من هنا تأتى أهمية السينودس. فنجاحه يقطع الطريق أمام التوظيف الاستغلالى والعمل التحريضى ويعيد قضية العلاقات الإسلامية ــ المسيحية فى الشرق الأوسط إلى موقعها الطبيعى الذى استمرت عليه طوال الأربعة عشر قرنا الماضية.