شكرا مدير معرض فرانكفورت للكتاب
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 17 أكتوبر 2023 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
هناك معايير يعرفها كل من يشاركون فى مناسبات دولية ذات طابع ثقافى وأولها أن أى حدث دولى كبير يقوم على دعم فرص التواصل بين الثقافات والحفاظ على ما تسميه اليونسكو (التنوع الثقافى الخلاق) والمأمول كذلك الحفاظ على مسافة واحدة من جميع الأطراف فى أزمنة الصراعات والحروب.
وهناك ما يشبه الإجماع فى العالم على أنه من الأفضل لتلك المناسبات أن تبقى بمنأى عن الصراعات السياسية الكبرى، وعلى الرغم من وجود أشكال مختلفة من الإقصاء والاستبعاد فى الأزمات الكبرى مثلما حدث مع روسيا بعد حربها الأخيرة مع أوكرانيا إلا أنها تبقى استثناءات، وغالبا يتمسك المعنيون بالقضايا الثقافية بالأمل فى تعزيز فرص التواصل على أساس الإيمان المشترك بالقيم الإنسانية الكبرى.
ولذلك مثل بيان يورجن بوس الرئيس التنفيذى لمعرض فرانكفورت للكتاب حول المواجهات الأخيرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين خرقا صريحا لهذه المعايير داخل الأوساط الثقافية المعنية بقضايا النشر والترجمة وفرص التواصل الثقافى، كما جاء قراره بتأجيل الاحتفال بفوز الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلى بجائزة «ليبراتور» الألمانية عن روايتها (تفصيل ثانوى) ليثير تساؤلات أكثر حول المنطق الذى يقود مؤسسات بهذا الحجم إلى تجاوز المعايير التى قامت المركزية الغربية بخلقها وسعت نحو تسيدها كقيم (أممية).. عدنية شبلى يكرمها معرض زايد للكتاب غدا بوقفة تضامنية معها يتقدمها الروائى الكبير إبراهيم عبدالمجيد.
وقد ذكرنى قرار الرئيس التنفيذى لمعرض فرانكفورت وموقفه من رواية عدنية شبلي بكتاب جميل قرأته قبل سنوات عنوانه (الرد بالكتابة) لبيل أشكروفت وغاريث غريفيث وهيلين تيفن، وله ترجمتان بالمناسبة الأولى للدكتورة شهرت العالم والثانية للناقد الدكتور خيرى دومة.
يركز الكتاب بشكل خاص على الأدب الذى ينجز فى إطار التجربة الاستعمارية ويتحدث عن كتاب المستعمرات الذين كتبوا أعمالهم باللغة الإنجليزية لكنها جاءت قوية ومتنوعة، تقوم على الاستنباط وتنجح فى تحدى المعايير السائدة فى الآداب والثقافة وخلقت ما يعرف بالكتابة (ما بعد الكولونيالية) فى ثقافات بلدان مختلفة مثل الهند وأستراليا وافريقيا وكندا.
تكتب عدنية شبلى باللغة العربية لكنها نجحت بفضل نشاطها القوى وتواجدها فى الغرب منذ سنوات فى مواجهة الرواية الإسرائيلية السائدة عن الصراع العربى الإسرائيلى وهذا بالضبط ما يزعج إسرائيل ويثير مخاوف حلفائها، فإى نجاح تحققه عدنية وغيرها هو خصم من مصداقية الخطاب الإسرائيلى لأنه يثير نقاشا حول العلاقات القائمة بين أنماط الكتابة وحول العوامل المؤثرة فى فى انتاج خطابها الجديد ويقدم نقدا راديكاليا للفرضيات التى تقوم عليها الرواية الإسرائيلية عن الصراع.
من حسن حظى أننى تعرفت مبكرا على أعمال عدنية ولفتنى فى روايتها الجميلة (كلنا بعيدون عن الحب بذات المقدار) اللغة التى تكتبها بها وهى لغة خاطفة يصعب الإفلات من تأثيرها وبفضل قرار الرئيس التنفيذى لمعرض فرانكفورت للكتاب عدت من جديد لروايتها (تفصيل ثانوى ) التى صدرت عن دار الآداب فى 2017 لكنها لم تنل ما تستحق من اهتمام يلائم موضوعها الفريد.
تقدم الرواية ما يجرى الإلحاح عليه فى روايات أدب ما بعد الاستعمار وتظهر التمثيل الأمين لصوت الضحية الفلسطينية وتواجه بتقنيات سردية فريدة عمليات المحو التى قامت بها إسرائيل، كما تبرز الرواية (عمليات الخوف المتبادل) التى تناولها محمود درويش كثيرا فى أشعاره الأخيرة، فالإسرائيلى خائف فى الجزء الأول من الرواية وقاتل أيضا، بينما هو فى الجزء الثانى مدان ومتهم بينما يعنى الفلسطينى الخائف بتصحيح التاريخ وإعادة بناء الذاكرة عبر ما يتاح أمامه من وثائق لبناء ما يسمى الآن (الروايات البديلة).
والواضح أن الأدب الفلسطينى بأصواته الجديدة من أمثال عدنية شبلى وعلاء حليحل وزياد خداش فى سبيله لبناء هذه الرواية وتعميمها لكن الكثير من هؤلاء ينتمون لعرب 1948 الذين ينبغى أن نعيد النظر فى أوضاعهم وطرق التعامل العربى معهم، فلم يعد من الملائم تركهم للمواجهة مرتين، فهم يواجهون إسرائيل كما يواجهون بعض الأصوات العربية التى لا تزال تشكك فى انتمائهم وكأننا فى كل يوم ندين إيميل حبيبى جديد.