عشق الصورة

عزة كامل
عزة كامل

آخر تحديث: الثلاثاء 17 نوفمبر 2009 - 9:21 ص بتوقيت القاهرة

 هل تنظر لنفسك فى المرآة، هل ترى ظلك، صورتك، هل تتلمس هذا التغيير الذى طرأ على ذاتك من الخارج ولا تشعر به داخليا، هل أصابك الرعب والبياض يزحف متلصصا على خصلات شعرك الأسود، والتجاعيد المحفورة فى الجلد تظهر بوضوح، وهل جرحت عيناك من تهدل الخديين اللذان كانا بالأمس خدان أسيلان، وماذا عن انحناء الكتفين.

هل تتعرف على حقيقتك أم تفعل مثلما فعل الغلام الإغريقى (نركيسوس) الذى دله الآلهة بجماله وهام العذارى بنضارته، بينما كان فى طراد عظيم فى يوم قائظ عرج على خميلة ناضرة ملتفة الأغصان ليشرب من الغدير الصافى الذى يترقرق من تحتها، وما كاد ينحنى إلى الماء حتى رأى صورته فى صفحته الساكنة فبهره حسنها وتخيل أن هذه صورة لحسناء هائمة فى حبه، وهو لا يعلم أن هذه الصورة ما هى إلا ظله، وأن عروس الماء الذى غرم وفتن بها من شدة جمالها ما هى إلا خياله.

مد يده.. فمد الخيال يده، اقترب بفمه، يريد قبلة، فاقترب الخيال بفمه وعندما مس الماء بشفتيه ذهب حلمه أدراج الريح وفر الخيال حتى شظايا الماء، لقد كاد أن يفقد عقله، فقد آسره ظله وتصاباه خياله فتحطم؟.

إنه تساؤل جدير بالتفكير والتأمل، فكل إنسان له مرآته الخاصة التى تستنسخ صورته وتعكسها، وتتشكل علاقته المتفردة بها بحسب علاقاته الإنسانية وتجاربه بمن حوله، وكذلك قائمة أعماله.

ماذا عن رجال الحزب الحاكم، هل مراياهم غير مجلوة، هل الضوء الساقط عليها غير كاف لإظهار ما طرأ على ذواتهم من آثار السن والمرض، والخيبة، والجشع، والنهم الذى لا يشبعه شىء؟ هل عجزت مراياهم أن تظهر انعكاسات وخيالات لما يدور من حولهم وفى داخلهم معا؟ فالأصل والصورة المنعكسة فى المرآة واحد (علاقة تماثل)، نفس الوجوه، نفس الشعارات، لكن ليس نفس الزمن.

هؤلاء الرجال (رجال الحزب الحاكم) أسرى لذلك الوعى المزيف، يتوحدون مع آناتهم لحد الموت، إن كل النقائص الدفينة فى باطنهم تتخارج على سطح المرآة، إن نرجسيتهم جعلتهم أسرى لصورتهم، لدرجة أنهم يكادوا يهلكون من فرط عشقهم لهذه الصورة...

ينعمون بالراحة دون أن يتكلفوا فى سبيلها التعب، ويلتمسون اللذة دون أن يحتملوا فى سبيلها الألم، يصمون آذانهم ويغلقون عقولهم، لا يسمعوا، لا يروا، لا يتحاوروا إلا مع أنفسهم.

لقد أزهقوا روح هذا الوطن وكيانه حضاريا وماديا، جغرافيا وتاريخيا، نجحوا فى تجميد تاريخه وعزل نخبه ومثقفيه.

مأساة رجال الحزب الحاكم، وغيرهم ممن يجيئون إلى الحكم صدفة أو بقوة أموالهم ونفوذهم، تكمن فى أنهم يتصورون أن هذا الشعب أبله، ساذج، مغيب، يتكلمون باسمه، وهم الذين بيدهم لقمته ومصيره، يخططون المشاريع السياسية الكبرى أو الاجتماعية أو الثقافية لتطويره دون علمه، ترتفع أصواتهم ويجعجعون بكلمات وشعارات عن الديمقراطية والعدالة والحرية والرخاء والمستقبل وهم يزدادون عجبا وخيلاء بأنفسهم، دون أن يدركوا أن أى مواطن على تراب مصر قادر على تحليل خطابهم وما وراءه مثل أى محلل سياسى مخضرم أو وكالة أنباء عالمية.

المآسى كثيرة والمؤامرات على حياة هذا الشعب أكثر، والموت يتعايش مع أبناء شعبه ولقمة العيش باتت بعيدة عن أفواه الكثيرين، عشرات ومئات من المصريين يقدمون كقرابين من أجل أن ينتعش الفساد، يموتون غرقا فى عبارات الموت، أو سحقا فى تصادم القطارات، أو يغتالهم الجوع ويلقى بهم على الأرصفة وفى زوايا الأزقة الضيقة المنسية أو يقتلهم الإهمال ويذويهم طول الزمن ولا ينالوا شرف الشهادة.

لقد سمموا أثير الوطن وأطفأوا نوره وحولوا كل ما يحرر الإنسان المصرى إلى قيود، ومثل طفرة الرياح التى تهب فجأة يظهرون من كل صوب وحدب لينفثوا فحيحهم اللاهب عندما يتعلق الأمر بأى مبادرات تعنى بالتغيير والإصلاح حتى لو كانت غير قابلة للتحقق، يصكون حجج لا يصوغها العقل السليم لرفض أى حل يسمح لنا أن نتنفس هواء نقى، يجب ألا يشغلنا هذا اللغط، هذا الرياء والمحاولات الدائمة لتغييب عقولنا التى تحول بيننا وبين الأناة والتفكير وتمنعنا من أن نعود إلى أنفسنا ونعكف عليها ونستخرج رؤى وبدائل لإنقاذ هذا الوطن.

لا يوجد حل لنا، لا يوجد مستقبل لهذا الوطن إلا بممارسة مواطنتنا الغائبة التى تعنى الانخراط الفعال والواعى كمواطنين فى جماعتنا، فى مجموعتنا الأوسع، حول القضايا المتعلقة بالفضاء العام، أن ننخرط فى شئون الحياة العامة بدءا من التصويت فى الانتخابات والترشح للمناصب السياسية إلى الانخراط فى الجدل الواسع حول القضايا الساخنة والحوارات السياسية، وأن يكون لدينا الحق فى أن نناقش القوانين التى تحكمنا حتى لو كنا خاضعين لها، أن نراقب أعمال الحكومة، وأن نحتج بكل الطرق السلمية.

إن منظمات المجتمع المدنى الحقوقية والبيئية والقانونية والسياسية عليها عبء كبير فى مساعدة الناس على تعلم كيف يصبحون مواطنين واعين ومسئولين عن طريق ما يسمى (بتعليم المواطنة)..

وتشتمل على جميع أشكال التثقيف من التعلم الرسمى وغير الرسمى فى المنزل، فى النوادى الشبابية، فى الاتحادات الطلابية، فى المدارس والمعاهد والجامعات وأماكن العمل، وسيؤدى ذلك بدوره إلى تعميق المشاركة المدنية، أى تنمية وتطوير الميول المدنية المبنية على معرفة مدنية ومهارات مدنية واسعة وعميقة، فتعليم المواطنة هو آلية للمشاركة المدنية.

ولن يتم توفير تقييم موثوق به بشأن أوجه العمليات الانتخابية القادمة إلا بالسماح للمجموعات الوطنية والدولية بمراقبة الانتخابات. فالمجموعات الوطنية تزيد فاعلية انخراطها فى الانتخابات بالسماح لها بالمراقبة، ويستطيع المواطنون محاسبة المسئولين أو الرؤساء السياسيين فى حالة التشكيك فى نزاهة الانتخابات أو شفافيتها، بالإضافة إلى أن هذا يمكِّن المواطنين أن يثقوا بنتائج وشرعية الحكومة من خلال توفير معلومات موثوق بها، وبإمكان المجموعات المدنية استقطاب آلاف المواطنين وتدريبهم فى فترة وجيزة نسبيا، ويحق لكل مواطن راشد بعد تدريبه تدريبا كافيا للمشاركة فى عملية المراقبة وأن يكون مراقبا من خلال التعهد كمواطن وناخب أن ينضم إلى جهود المراقبة الحيادية للعملية الانتخابية.

إن مصر تحتاج لعملية إصلاح انتخابى كجزء من حزمة إصلاحات لإرساء النظام الديمقراطى وترسيخه، من ضمنها الإصلاح القانونى المتعلق بتعديل الدستور، وقانون الانتخابات واللوائح والضوابط التى تتبعها بهدف رفع مستويات النزاهة فى العملية الانتخابية، كما أننا نحتاج إلى إصلاح إدارى يتعلق بإدخال استراتيجيات جديدة ضمن عمل الإدارة الانتخابية وتعديلات فى هياكلها وسياساتها وآلياتها الفنية بهدف تمكينه من الاضطلاع بمسئوليتها القانونية على أكمل وجه.

أما الإصلاح السياسى الذى بات بالنسبة لنا ماء المحاياه لأنه يعنى بالتغييرات فى البيئة السياسية التى تعمل من خلالها الإدارة الانتخابية من أجل ضمان الاستقلالية وتوفير إطار أكثر شفافية ونزاهة لتمويلها ومحاسبتها.

إذا حدثت حزمة هذه الإصلاحات فلن يقلقنا التوريث من عدمه، أو فوز هذا المرشح أو ذاك، لأننا سنكون عندئذ امتلكنا الخميرة التى تضمن لنا ملامح إرساء نظام ديمقراطى تغلب عليه التعددية والنزاهة، مهما اختلفت على هذا الوطن الريح وألم به العواصف والأنواء فلن يتمكن أحد من الاستئثار به من دون أصحابه وأن يصطفيه لنفسه.

فدفع الظلم والمطالبة بالحرية غريزة مكنونة فى الإنسان المصرى كامنة ككمون النار فى الحجر، وفى النهاية (إن من يحمل سوط فرعون يتلقى ضرباته على ظهره).

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved