كيف تعيشون بدون أصدقاء؟
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 17 نوفمبر 2010 - 12:09 م
بتوقيت القاهرة
كنا نتهامس فلا يسمع الأغراب مما نقول شيئا. الآن يتهامس الناس فتسمع كل ما يقولون. لا أستبعد أن يكون انتشار الهاتف النقال وراء التحول الذى طرأ على طبقات الصوت عند كثيرين ممن نقابل وإن كنت موقنا أن وراءه أيضا تدهور القيم وانهيار قواعد الاختلاط وفساد آداب الحديث.
جلسنا فى المقهى وكانت ابنة العشرين من العمر تجلس على بعد مائدتين وتهمس لجليستها.؟ وصل همسها إلى سمعى وأسماع آخرين رغم الضجة الصاخبة داخل المكان وفى الشارع. سمعتها تبلغ رفيقتها أن لها من الأصدقاء ثلاثمائة، وسمعت صديقتها ترد مزهوة بأن أصدقاءها تجاوز عددهم الثلاثمائة وعشرة.
فهمت من الحوار الذى كان القصد أن يدور همسا أن هؤلاء الأصدقاء هم من صنع الفضاء الإلكترونى، وأنهم متساوون فى المكانة لدى صاحبة الموقع، فليس بينهم صديق يتمتع بخصوصية تجعله دائما أقرب من غيره أو يستحق ألفة أوثق. وإن كان يوجد لفترة محدودة أو لغرض بعينه من يحتل مكانة كان يطلق عليها القدامى فى الغرب عبارة primus enter pares، أى الأول بين متساوين.
رحت أحاول التمييز بين ثقافتين، ثقافة جيل أقدم أنتمى إليه وثقافة جيل معاصر، واخترت مفهوم الصداقة نموذجا للمقارنة. بدا لى الأمر كما لو كانت ثقافة الجيل الذى أنا منه امتدادا طبيعيا ومكملا وإن كان متطورا لثقافة أجيال أسبق، وكما لو كانت ثقافة الجيل الأحدث، انقطاعا عن ثقافتنا والثقافات التى نهلت منها.
بحثت فى سمات صداقة الفيس بوك وسألت حتى تيقنت من أنها ممارسة مختلفة تماما عن أى علاقة صداقة كتب عنها أو مارسها المتوغلون فى القدم من الإغريق كانوا أم من الرومان والعرب. أين هذه الصداقة التى يمارسها خمسمائة مليون شخص من مشتركى الفيس بوك من الصداقة التى كان اللورد بيرون يصفها بأنها «كالحب بدون أجنحة»، ووصفناها ونحن فى عمر الشباب الهادر بأنها «كالحب بدون دفئه أو لسعة حرارته»، كان الواقعى فينا يراها «كالحب تنشر الطيب حولها فتنتشى الروح ويرتاح الجسد ولكن قدميها ثابتتان على الأرض»، تكمن عبقريتها فى أنها تعرف حدودها ولا تتجاوزها وتحترم الواقع ولا تسمح للأحلام أو الخيال بانتزاعها منه.
علمتنا التجارب أن نقرأ المستقبل فى حاضر مجتمعات نقلدها بإرادتنا أو تفرض علينا تقليدها. هذه القراءة تجعلنا نتوقع أن يستمر انحسار الصداقة. فالصداقة فى أمريكا، وكثير من مجتمعات الغرب منحسرة، ومستمر انحسارها. وحول هذا الانحسار تقول الدراسات العلمية التى تجرى دوريا فى بعض جامعات أمريكا إن الناس صاروا يفقدون أصدقاءهم بسرعة، بل إنهم فقدوا ثلث الأصدقاء خلال العقدين الأخيرين. وتفيد الإحصاءات الأخيرة بأن ربع الأمريكيين يعترفون بأنهم لا يقيمون علاقة صداقة مع أحد.. لا أعرف عن دراسات مماثلة تكون قد أجريت فى مصر، ولكنى أستطيع أن أؤكد بالملاحظة والمتابعة أننا على الطريق وبسرعة لنكون مثل الأمريكيين فى معدل فقدان الأصدقاء.
لاحظت، بين ما لاحظت، أن عددا متزايد من أبناء وبنات الطبقات الميسورة الحال يزور بانتظام أو بشبه انتظام عيادات العلاج النفسى، ويقضى وقتا غير قصير فيها. ولا شك أن أسبابا متعددة، اجتماعية واقتصادية أو جسمانية تدفع بهذا العدد إلى الزيادة المتتالية، وأعتقد أنه بين هؤلاء المترددين على العيادات النفسية نسبة عالية من أشخاص محرومين من نعمة الصداقة فراحوا يشترونها بالمال فى عيادات. هناك يجدون من يشجعهم على الحديث ويزرع بعض الاطمئنان ويجدد ثقتهم فى أنفسهم ويخفف من هواجسهم، وكلها وغيرها كان يمكن أن توفرها علاقات الصداقة بدون مقابل.
لا أقارن محلات بيع الحيوانات المنزلية بالرواج الهائل الذى تشهده فى السنوات الأخيرة عيادات ومصحات الطب النفسى، ولكنى أظن أن وراء الزيادة فى اقتناء الحيوانات الأليفة كالكلاب والقطط والفئران البيضاء والأرانب فى الولايات المتحدة وفى بلادنا الرغبة القوية لدى عديد الناس فى تعويض النقص فى علاقات الصداقة والأزمة المتفاقمة فى عدد الأصدقاء.
نسأل أنفسنا طوال الوقت ويسألنا الصغار،كيف عاش أجدادنا أيام زمان بدون كهرباء ومياه جارية وغاز سائل ولكننا لا نسأل الكبار والصغار على حد سواء، كيف تعيشون أيامكم بدون أصدقاء؟