13 نوفمبر 1918: ضربة البداية لثورة 1919
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 17 نوفمبر 2018 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
مرّ مائة عام منذ أيام على يوم 13 نوفمبر سنة 1918 الذى ذهب فيه سعد زغلول ومعه على شعراوى وعبدالعزيز فهمى لمقابلة المعتمد البريطانى، سير ريجنالد وينجت، يطالبون بالتصريح لهم بالسفر إلى مؤتمر الصلح فى باريس ليعرضوا عليه قضية مصر ويطلبوا إلغاء الحماية البريطانية عليها. صحيح أن المؤرخين يؤرخون لقيام ثورة سنة 1919 بيوم 9 مارس سنة 1919، حيث اندلعت المظاهرات ونظمت الإضرابات عن العمل غداة القبض على سعد زغلول ورفاقه الأربعة على شعراوى وعبدالعزيز فهمى وحمد الباسل واسماعيل صدقى، ولكنه بعيدا عن التأريخ الضيق لاندلاع الثورة وأحداثها، فإن العملية الثورية بدأت حقيقة فى 13 نوفمبر 1918. القبض على زغلول ورفاقه الأربعة فى مارس 1919 والاحتجاج عليه متصلان اتصالا وثيقا بزيارة الزعماء الثلاثة للمعتمد البريطانى فى نوفمبر السابق عليه. القبض على الرفاق الخمسة لم يكن ليحدث أساسا لو لم تكن هذه الزيارة.
***
هذا المقال ليس تأريخا وإنما هو تفحص للمعنى وراء زيارة الزعماء الثلاثة للمعتمد البريطانى ووضع الثورة التى أطلقتها زيارتهم فى التاريخ المعاصر لمصر.
الزيارة كانت بعد يومين اثنين فقط من إعلان الهدنة فى الحرب العالمية الأولى فى يوم 11 نوفمبر فى وقت كانت فيه الاتصالات صعبة ولم تكن ولا حتى إذاعة. السرعة فى إتمام الزيارة تعنى أن المصريين، أو على الأقل نخبتهم، كانوا متابعين لما يحدث فى العالم بل إنهم كانوا فى القلب منه، يعتبرون أنفسهم جزءا منه وهو، بتطوره وقواعده، شاملٌ لهم. المصريون، عبر سعد وزميليه، وهم يطالبون بإلغاء الحماية البريطانية المعلنة فى سنة 1914، كانوا يطالبون بمصر مستقلة، فإعلان الحماية كان قد فك كل رباط لهم بالدولة العثمانية، وعلى أى حال كانت الدولة العثمانية نفسها قد انتهت بهزيمتها مع حليفتيها الألمانية والنمساوية المجرية فى الحرب العظمى بحيث لم يصبح ممكنا العودة إلى ما كان الوضع عليه قبل سنة 1914، أى العودة إلى نظام الخديوية المتمتعة باستقلال ذاتى فعلى عن الدولة العثمانية ولكن مع بقاء الرباط القانونى بها وعلاقة الخلافة الإسلامية.
***
بهذا الفهم، كان طلب السفر إلى باريس والمطالبة بإلغاء الحماية صادرين عن وعى وعزم على نيل الاعتراف بمصر عضوا كامل الأهلية فى المجتمع الدولى الجديد قيد التشكل بعد نهاية الحرب الأولى، مجتمع القرن العشرين. المؤرخون يعتبرون أن القرن التاسع عشر كان قرنا طويلا لم ينته إلا فى سنة 1914. بهذا المعنى يمكن أيضا اعتبار 13 نوفمبر يوم البداية فى تصفية الاستعمار الأوروبى الذى نزل على القارتين الأفريقية والآسيوية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كانت مصر، مع الهند وإيرلندا الأوروبية، أول من هبّ فى القرن العشرين مطالبا بالاستقلال عن الاحتلال الأوروبى، وفى سبيل ذلك أقام زعماؤها شبه حركة لمكافحة الاستعمار مع أقرانهم فى الهند وفى إيرلندا. وكانت مصر بالفعل أول من حصل فى أفريقيا وآسيا على الاستقلال، وإن كان منقوصا، فى سنة 1922. تصفية الاستعمار الأوروبى بلغت أوجها بعد ذلك بأقل قليلا من أربعة عقود، وبمشاركةٍ فاعلة لمصر أيضا فى حقبة جديدة لها.
غير أن المطالبة بإلغاء الحماية والانضمام بذلك إلى مجتمع الأمم المستقلة لا يمكن فهمها بعيدا عن عملية بناء الوطن المصرى المعاصر أولا منذ محمد على ثم وخصوصا منذ عهد اسماعيل فى الستينيات من القرن التاسع عشر. لأسباب تتعلق برغبته فى إصلاح الدولة العثمانية الخابية قوتها، أو لإدراكه للإمكانيات الكامنة فى وادى النيل وسكانه، أهل مصر، أو لأغراض أنانية بحتة، استقل محمد على بالولاية على مصر استقلال أمر واقع، فعليا، عن الدولة العثمانية وشرع فى عملية مستقلة لتحديث الزراعة والرى والتعليم وللتصنيع المرتبط بالجيش. حفيده اسماعيل خاض فى هذه العملية وعمّقها وتوسع فيها فوصل إلى المجال الثقافى، والأهم من ذلك، أنه نشأ بالتوازى شعور وطنى مصرى، أو بعبارة أخرى شعور بالتفرد وبالهوية المنفصلة عن الهوية العثمانية، تشاركها فى بعض ملامحها ولكن تختلف عنها فى ملامح أخرى، منها الإقرار المتنامى بالمساواة بين المصريين، الأقباط منهم والمسلمين، واليهود كذلك. هذا الشعور الوطنى، الذى يسميه البعض بالقومى، ضرورى لقيام الدول، وهو الذى على أساسه نشأت الدول القومية فى القارة الأوروبية فى القرن التاسع عشر.
***
الشيء اللافت للانتباه أنه بنشأة الشعور الوطنى المصرى خرجت السيطرة على تطور المجتمع فى مصر من أيدى اسماعيل وأبنائه. المجتمع المصرى أنشأ مؤسسات وطنية، كانت تسمية بعضها فى ذلك الوقت «أهلية»، فى التعليم الجامعى، وفى النشاط المصرفى، وفى الرياضة، وفى الفن، وفى الصحافة. لم يمنعه الاحتلال البريطانى من إنشاء المؤسسات الوطنية، بل لعل هذا الاحتلال كان المحفز على إنشائها لكى تشترك فى مقاومته. المجتمع أنشأ جل المؤسسات الأساسية فى الدولة الوطنية فكان طبيعيا أن يتخذ الخطوة الأخيرة نحو قيام دولته الوطنية. كل ثورة 1919 يمكن فهمها فى هذا الإطار.
لأن الاحتلال البريطانى رفض طلب سعد وزميليه فى 13 نوفمبر ثم لأنه قبض عليه ورفاقه اندلعت الثورة. ولما اضطر المحتل إلى السماح للوفد الذى تشكل لتمثيل المصريين بالسفر إلى باريس، سافر الوفد فقوبل بجحود المؤتمرين، ومنهم الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون، الذين رفضوا طلب المصريين بإلغاء الحماية وأرادوا إبقاء مصر خاضعة للتاج البريطانى. فى السنة السابقة كان الرئيس ويلسون قد أعلن نقاطه الأربع عشرة، ومنها حق الشعوب فى تقرير مصيرها، ولكنه اتضح بعد ذلك أنه كان يعنى الشعوب الأوروبية البيضاء وحدها. لما قوبل الطلب المصرى بالجحود، استمرت الثورة وزادت اشتعالا حتى صدر تصريح 28 فبرير 1922 بإلغاء الحماية. التصريح اقترن بشروط أربعة شوهت الاستقلال القانونى لمصر، ولكنه مع ذلك كان أساسا لنشأة الدولة فيها، دولة استمر المجتمع، ومنه المجتمع السياسى المستجد، فى بناء مؤسساتها وفى الكفاح من أجل استكمال استقلالها. نقطة الضعف كانت أن المجتمع السياسى، قد وقع بين شقى رحى السراى التى استكثرت أن يخرج هذا المجتمع عن طوعها، والاحتلال البريطانى الذى أراد إخضاع نفس المجتمع، والسراى كذلك، له.
***
13 نوفمبر هو بذلك ليس فقط اليوم الذى طالب فيه الزعماء المصريون بإلغاء الحماية وإنما هو أيضا التاريخ الذى بدأ فيه عملهم على تكريس مصر دولةً على غرار الدول فى المجتمع الدولى الحديث.
13 نوفمبر هو عيد الجهاد الذى كان يحتفل به فى مصر قبل ثورة سنة 1952. هل الاحتفاء به عودة لما قبل 1952 وخفس لما جرى بعدها؟ التاريخ حلقات. لو لم يكن 13 نوفمبر لما كانت ثورة سنة 1919 ولما كان تصريح 28 فبراير ولما كان دستور سنة 1923 ثم الكفاح ومعاهدة 1936 ورفع القيود الموضوعة على الجيش المصرى، وبالتالى التوسع فى بنائه رأسيا وأفقيا وهو ما سمح بحركة الجيش فى سنة 1952. ثورة يوليو، بعد ترسخها، بذرت العدالة الاجتماعية فى مصر، وهى زرع أصابته الآفات مؤخرا، ولكن الغالبية الساحقة من المصريين لن تكف عن التطلع إلى تعافيه وإلى أن تجنى ثماره. ثورة يوليو، بما لها وبما عليها، جزء حيوى من تاريخ مصر المعاصرة تعدّت فترته الستة والستين عاما، ولكن مصر المعاصرة كانت موجودة قبلها وهى استمرت فى الوجود فى ظل التجليات المختلفة للنظام السياسى المنبثق عنها منذ سنة 1952، وهى ستبقى بعدها بفضل كدّ المصريين وجهودهم كلهم، وليس لاجتهادات أى فريق منهم وحده مهما كان حسن نيته. فى المقابل، هل إغفال ذكرى 13 نوفمبر يرسّخ من ثورة يوليو ونظامها السياسى مختلف التجليات؟ 13 نوفمبر تعبير عن فترة امتدت لثمانين عاما على الأقل منذ الستينيات من القرن التاسع عشر وحتى مطلع الخمسينيات من القرن العشرين. صحيح أنها فترة استمرّت فيها مصر تعانى من الاحتلال البريطانى وتبعاته السياسية المشار إليها أعلاه ومن مسألة اجتماعية حادة، ولكن إغفال 13 نوفمبر هو أيضا تجاهل لفترة ازدهر فيها التعدد الثقافى والمجتمعى، وخبت فيها الطائفية، والأهم من ذلك بل والأصل فيه أنها كانت فترة نشأة الوطن المصرى المتفرد الحديث. هذا الوطن، وهذا الخبو، وهذا الازدهار هم الذين اجتذبوا إلى مصر من عبدالرحمن الكواكبى إلى الحبيب بورقيبة مرورا بعبدالكريم الخطابى، ومن بشارة وجبرائيل تقلا إلى جورجى زيدان، ومن يعقوب صنوع إلى نجيب الريحانى إلى فريد الأطرش مرورا ببيرم التونسى. تكريس العروبة فى الفكر السياسى المصرى الذى يحسب لثورة يوليو لم يأت من فراغ. هو له أصل فى ممارسة النظام السياسي ــ الاجتماعى التعددى السابق عليها. ربما وجب التذكير بأن هذا النظام هو من دعا إلى إنشاء جامعة الدول العربية ذاتها. إغفال 13 نوفمبر هو تجاهل لمصر كما يكرسها تاريخها. التاريخ حلقات.
الرجاء أن يكون الاحتفال بالذكرى المئوية لثورة سنة 1919 فى العام القادم لائقا بمصر وبها وبأجداد المصريين الحاليين الذين أشعلوها وبقيَم التعدد التى بثّتها.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
الاقتباس
13 نوفمبر هو بذلك ليس فقط اليوم الذى طالب فيه الزعماء المصريون بإلغاء الحماية وإنما هو أيضا التاريخ الذى بدأ فيه عملهم على تكريس مصر دولةً على غرار الدول فى المجتمع الدولى الحديث.