إشكاليات اليمين الأمريكى من منظور تاريخى

وليد محمود عبد الناصر
وليد محمود عبد الناصر

آخر تحديث: الثلاثاء 17 نوفمبر 2020 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

أخيرا انتهت انتخابات الرئاسة الأمريكية بكل ما حفلت به من تفاعلات وبكل ما حظيت به من اهتمام عالمى، ربما بشكل استثنائى أو على الأقل يفوق الاهتمام المعتاد من قبل العالم الخارجى بحدث الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وأسفرت نتائجها عن انتهاء حقبة الرئيس الجمهورى «دونالد ترامب» بعد فترة ولاية رئاسية واحدة فقط، ولأول مرة منذ رئاسة الرئيس الجمهورى الأسبق جورج بوش الأب لولاية واحدة فقط انتهت فى عام 1992. وقد حفلت حقبة حكم الرئيس «ترامب» بدورها بأحداث أقل ما توصف به بأنها كانت فى الكثير من الأحيان مفاجئة ودراماتيكية، وربما أحيانا صادمة، لهذا الطرف أو ذاك، داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو فى محيطها الإقليمى الأمريكى أو فى هذا الإقليم أو ذاك من أرجاء العالم أو حتى فى العالم بأسره. إلا أن جميع هذه الأحداث كانت بالتأكيد «تاريخية» بكل معنى الكلمة، وكل منها يستحق الآن وقفة تأمل ونظر ودراسة متعمقة، خاصة مع انتهاء حقبة حكم الرئيس «ترامب».
وكالعادة كانت تلك الانتخابات، حتى منذ ما قبل بداية الحملات الانتخابية الأولية داخل كل من الحزبين الرئيسيين الجمهورى والديمقراطى لاختيار المرشح النهائى لكل حزب، وإلى لحظة ظهور النتائج النهائية، فرصة لطرح الكثير من المسائل ذات الصلة بالمشهد الانتخابى ذاته، منها ما يتصل بالداخل الأمريكى ومنها ما يتعلق بعلاقة المشهد الانتخابى بالعالم، واقعه ومستقبله، بما فى ذلك، بل وفى المقدمة منه، علاقات الولايات المتحدة ببقية عالمها. ومن المسائل الهامة التى طرحتها تلك الانتخابات الأخيرة أمور متعددة ترتبط باليمين الأمريكى، الذى مثلت هزيمة الرئيس الجمهورى «دونالد ترامب» فى الانتخابات الأخيرة فشلا ذى دلالات متعددة الأبعاد له، وأصبح الأمر يستحق الذهاب بعيدا والانتقال إلى الجذور فى معالجة موضوعات لها تاريخ فى مسيرة اليمين الأمريكى، خاصة على مدى النصف قرن الأخير.
ومن أبرز الملاحظات عن مسار اليمين الأمريكى فى العقود الخمسة الماضية، والمستقاة من تجربة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، أنه عمد إلى تقديم مرشحين للرئاسة مما يمكن أن نطلق عليهم تعبير «من خارج الصندوق»، أى من خارج عباءة اليمين التقليدى، حيث بدأ ذلك بالدفع بممثل معتزل لم يكن يوما ما من نجوم هوليود، وهو الراحل «رونالد ريجان»، فى انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1980، وجاء ترشيح جورج بوش الأب استثنائيا فى انتخابات 1988، وبعد ولايتين لريجان، وربما بسبب وحيد هو كون بوش الأب كان نائبا لريجان كما أنه كان أحد أبناء النخبة الأمريكية، ثم عاد اليمين الأمريكى ليختار، وبغرابة، جورج دبليو بوش، أو بوش الابن، فى وقت كان يراهن كثيرون فى صفوف الحزب الجمهورى على ترشيح أخيه «جيب» الواعد آنذاك للرئاسة الأمريكية، وحشد اليمين الأمريكى مجددا خلف مرشحه غير المتوقع حتى فاز فى انتخابات 2000، بل وأعاد الفوز فى انتخابات 2004، وجاءت الحالة الثالثة فى الدفع بالرئيس المنتهية ولايته «دونالد ترامب»، وهو رجل أعمال عملاق فى قطاع المقاولات الأمريكى، كان له ما له وعليه ما عليه ولكنه لم يبد فى أى مرحلة مهتما بالسياسة أو صاحب خبرات أو تجارب فيها، نظرية أو عملية، ولكن الحشد اليمينى الأمريكى أدى إلى نجاحه أول مرة فى انتخابات 2016، وهو حشد استفاد أيضا من حالة رفض واسع لدى قطاعات من المجتمع الأمريكى لمنافسته الديمقراطية آنذاك «هيلارى كلينتون»، ولكن تعثرت جهود اليمين الأمريكى هذه المرة لتعبئة دعم شعبى للرئيس المنتهية ولايته «دونالد ترامب» لولاية ثانية.
وعلى مدى حكم الرؤساء الجمهوريين الثلاثة المذكورين، انتقل اليمين الأمريكى فى الأطروحات الفكرية السائدة، أو على الأقل الغالبة لديه، إلى مواقع أكثر تشددا، فعلى سبيل المثال كانت البدايات الحقيقية والإرهاصات الأولى لزمن «المحافظين الجدد» فى فترتى ولاية الرئيس الراحل «رونالد ريجان»، ولكن الأمر اكتسب أبعادا أكثر تجذرا وأعمق من الناحية المؤسسية فى المخيل التاريخى لليمين الأمريكى وأصبح واقعا صلبا ومتماسكا على الأرض خلال فترتى ولاية الرئيس الأسبق «جورد دبليو بوش»، بحيث صارت فى مرحلة ما السلطة بكاملها تقريبا فى أيدى أبناء ذلك التيار، وتزامن مع ذلك تعاظم نفوذ جماعات أخرى عديدة ومتنوعة داخل اليمين الأمريكى أو محسوبة عليه أو داعمة له، يعتبر جلها جماعات مصالح أو جماعات ذات توجهات أيديولوجية تتسم بالطبيعة والضرورة بالتشدد، بالرغم مما كان ما بين هذه الجماعات نفسها من اختلاف فى التوجهات وتباين فى المصالح. وتشمل هذه الفئة جماعات تتباين مرتكزاتها الفكرية ما بين تشدد ذى جذور دينية وعقائدية، وما بين تعصب له أبعاد قومية، وآخر يرتكز على اللون، ورابع يرتبط باللغة، وخامس يتصل بقناعات مجتمعية، منها مثلا المطالبة بضرورة عدم وضع أى قيود على حرية حمل السلاح فى المجتمع أو رفض الإجهاض، وسادس له مرجعيات اقتصادية مثل رفض أى تدخل فيما يسمى بآليات السوق الحر ومحددات العرض والطلب، وغيرها كثير.
وكان التحدى الأكبر الذى نجح فيه اليمين الأمريكى مرارا، وإن كان بدرجات متفاوتة، وفشل فيه فى مرات أخرى، أيضا بدرجات متفاوتة، على مدى نصف القرن الأخير، هو كيفية الحفاظ على التماسك والتكاتف والتضامن، بل وحتى السعى إلى درجة الوصول لحالة من الوحدة، فيما بين مختلف تلك المكونات، لضمان أن يكون ساكن البيت الأبيض من قلب اليمين، معبرا عن مصالحه المتنوعة والمتعددة، ومدافعا عنها، بل ودافعا لبلورة المزيد من المصالح والمطالب لقوى اليمين، وساعيا لفرض المزيد من قناعات اليمين على الأرض فى الشارع الأمريكى وفى الحياة اليومية للمواطن الأمريكى العادى، وذلك من خلال التخطيط والتنفيذ لحقن تلك القناعات فى الثقافة الاجتماعية، وتوظيف وسائل الإعلام، التقليدية والجديدة على حد سواء، والمؤسسات التعليمية، بمختلف مستوياتها، والمراكز والنوادى الاجتماعية والرياضية، بل وآلية الأسرة ذاتها، واى أطراف فاعلة أخرى تكون صاحبة تأثير فى صياغة وتشكيل الراى العام الأمريكية، لتخدم جميعها تلك الغايات والأهداف. وقد نجحت تلك المساعى أحيانا وفشلت فى أحيان أخرى، وفى أحيان ثالثة عرقلت إنجازات هامة أو حولتها عن مسارها الأصلى مثل محاولات الرئيس الديمقراطى الأسبق «باراك أوباما» تنفيذ خطة طموحة ووطنية وشاملة للتأمين الصحى، أدت اعتراضات اليمين عليها، داخل الكونجرس الأمريكى، وعبر العديد من القنوات الإعلامية لليمين الأمريكى، ومن خلال عمليات حشد وتعبئة مجتمعية، إلى تقلصها إلى أقل من المأمول منها أصلا فى الداخل الأمريكى فى المقام الأول، كما جاءت فترة رئاسة الرئيس «ترامب» بعد ذلك لتسعى لإجهاض تلك الخطة والإطاحة بما تبقى من معالمها كلية.
وعلينا فى ختام هذا المقال أن نؤكد على أن اليمين الأمريكى استفاد فى مرات سابقة من مخزون خبراته وتجاربه العملية فى تجاوز هزائم أو انتكاسات مرت عليه، كما استفاد فى مرات أخرى من تقصير قوى الوسط أو اليسار الأمريكى فى عدم اعتماد الاستراتيجيات الملائمة لكل مرحلة وفق معطياتها وأيضا من عدم حسن استغلال قوى الوسط واليسار لأوجه الخلل والضعف، سواء البنيوية أو الطارئة والمؤقتة، المتعلقة بقوى اليمين الأمريكى، ولكن لهذا الموضوع حديث آخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved