الوحدة العربية بين مبدأ وحاجة
صحافة عربية
آخر تحديث:
الثلاثاء 17 نوفمبر 2020 - 7:00 م
بتوقيت القاهرة
نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب عبدالإله بلقزيز.. نعرض منه ما يلى.
ليس من دولة وطنية، بعد القرن التاسع عشر (قرن القوميات والوحدات القومية بامتياز)، لم يكن مبناها على أمة أو على أمم ملتئمة فى كيانها السياسى؛ لذلك عرفت فى الفكر السياسى الحديث، باسم الدولة الأمة (Etat – Nation)، وإن كانت فى بعض حالاتها تأخذ شكل دولة متعددة القوميات: من طبيعة اتحادية فى الغالب أو مركزية (وإنْ هى أوحت بأنها لا مركزية). ولم يكن قد بقى من الأمم بعد الحرب العالمية الثانية إلا القليل من التى لم تقو على إقامة كيانها الموحد، فيما انفرط عقد دول متعددة القوميات كثيرة، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، فتقسمتها قومياتها لتلتئم فى دول قومية مستقلة، منذ انفراط عقد الإمبراطورية العثمانية حتى انهيار الاتحاد السوفييتى وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا.
ولقد أدت حروب استعمارية وإمبريالية، منذ أواسط عقد الأربعينيات من القرن الماضى، إلى تقسيم أمم وتجزئة دولها بين القوى الكبرى، على مثال ما حصل لألمانيا، ثم لفيتنام وكوريا، بينما أمكن بعضها أن يستعيد وحدته الكيانية بعد ذلك كما فى الحالتين الألمانية والفيتنامية، فيما فشل فى ذلك آخر.
عمليا لم يبق من الأمم الكبرى التى فشلت فى إنجاز وحدتها القومية حتى الآن، أو التى عجزت عن أو منعت من استعادة وحدة كيانها سوى العرب والكوريين والصينيين، حيث ترسخت فيها، وإن بدرجات متفاوتة، كيانات سياسية متمسكة بحدودها الجغرافية الإقليمية وسياداتها، وزرعت بينها نزاعات عميقة تعسر إمكانات توحيدها، كما هى الحال بين الصين الشعبية وتايوان وبين الكوريتين، وبما يجاوز ما بين الكيانات العربية من خلافات ونزاعات: على الحدود بينها، كما على الخيارات السياسية.
والحق أن التوحيد القومى لم يكن تفصيلا عاديا فى تاريخ الأمم الحديثة، أو مصادفة تاريخية طيبة أخذت الأمم تلك إلى نهاية محمودة لشوط طويل قطعته فى معاناتها التفكيك والتقسيم، وإنما هو «التوحيد» الذى عليه كان التعويل فى صناعة مشروع التقدم فى المجتمعات الحديثة. وعلى الرغم من أن تاريخ أوروبا وأمريكا الشمالية الحديث، تاريخ تراكم لمكتسبات هى لبنات تقدمها (مثل النهضة الأوروبية، والإصلاح الدينى، والثورة العلمية، والثورة الصناعية، وفلسفة الأنوار، والثورات البرجوازية، وقيام النظام الديمقراطى)، فإن حلقة التوحيد القومى كانت حلقة أساسا؛ بل مركزية فى عملية التراكم والبناء تلك. وليس من مبالغة فى القول، إن المكتسبات تلك ما كانت لتتعزز وتغدو حقيقة مادية لو لم يتوافر لها هذا الحامل السياسى الذى مثله التوحيد القومى.
وإذا كان ذلك واضحا فى حالات بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، منذ وقت مبكر، فهو أوضح فى حالة البلدان التى تأخرت وحدتها الكيانية إلى القرن التاسع عشر، مثل روسيا وألمانيا وإيطاليا؛ أى التى انطلق نهوضها مع إنجاز وحدتها.
إذا كان العرب قد أخفق فى إنجاز كثير من أهدافه النهضوية التى تطلع إلى تحقيقها باكرا منذ القرن التاسع عشر: حماية الأمن القومى وتحرير المغتصب من الأراضى، والثورة الصناعية والاستقلال الاقتصادى اللذان يحررانه من التبعية للخارج، وإقامة النظام المدنى الحديث والخروج من حلقة التأخر التاريخى واكتساب أسباب التمدن والتقدم أسوة بالأمم الكبرى المعاصرة، فما ذلك إلا لأنه لم يحرز أى قدر من النجاح حتى الآن، فى تحقيق بعض وجوه التوحيد القومى بينه، على المستويات الاقتصادية والتجارية خاصة. وسيظل على كياناته الضعيفة، المستقل بعضها عن بعض، أن تستمر فى معاناة العجز عن فعل شىء كبير ينقلها من حال الفاقة أو التبعية أو هشاشة الأمن الاستراتيجى، إلى حيث تصير دولا قوية ذات اعتبار فى عالم اليوم الذى تحكمه القوى الكبرى وتقرر مصيره. نعم. سيكون عليها أن تستمر كذلك إن لم تلتفت إلى مسألة التوحيد.
نحن هنا لا نرتل موقفا أيديولوجيا بعينه، وإنما نسلم بحقيقة تاريخية: حاجة التقدم إلى عملية التوحيد كما قام عليها دليل من تجارب التاريخ، لا كما بسطت فى نصوص الفكر. ومع ذلك، لا يمنعنا هذا إطلاقا، من أن نقول من غير تردد، إن الوحدة حق للأمة العربية أسوة بغيرها من الأمم التى تمتعت به. وإذا كان بلوغ هدف حيازة هذا الحق أمرا صعبا اليوم، فهو لن يكون مستحيلا غدا. ولا يتوقف إمكانه على عمق الوعى به عند العرب جميعا؛ بل قد يأتى الإمكان من طريق أخرى غير الإيمان: من طريق ضغط الحاجة إليه.